نقاط على الحروف

إعادة الإعمار.. بديهية وحتمية لا يدركها المنبطحون!
يتحوّل ملف إعادة الإعمار، بل منع إعادة الإعمار، إلى ملفّ معقّد أكثر فأكثر. إذ إن الابتزاز واضح وصريح: لن تسمح أميركا بإعادة الإعمار ما لم تسلّم المقاومة سلاحها، وما لم يستسلم أهلها لإرادة عدوّهم، ويخضعوا من أجل إعادة إعمار بيوتهم وأرزاقهم، حيث لم يُفلح تدميرها بترهيبهم وسلخهم عن أرضهم وعزّتهم.
لم يكن ليتوقع أحد أن تبلغ الصلافة هذا الحدّ من الفجور، ولا أن يتحوّل ملف إعادة الإعمار إلى عدوان جديد متواصل، فالمنع عدوان سافر، لا يخجل من السكوت عليه؛ وحتى الاشتراك فيه من قبل فريق "السياديين" في البلد. على سبيل السيادة، يردّد هؤلاء ببغائية خاضعة للشروط الأميركية لإعادة الإعمار، ويحاولون تقديمها وكأنّها حقّ طبيعي للأميركي، أو كأنّها بديهية لا إمكان لدحضها أو حتى نقاشها.
بكلّ انبطاح ممكن، وعلى سبيل المثال لا الحصر، اجتهد "القواتيون" في التعبير عن رفضهم لإعادة الإعمار منذ ما قبل اتفاق وقف اطلاق النار، والذي لم يلتزم به الصهاينة على الرغم من التزام لبنان به، ومنذ ما قبل مسح الأضرار والوحدات السكنية المدمّرة بفعل العدوان الوحشي.. استماتوا في التعبير عن سخطهم على أهل المقاومة، وفي التسابق على التضييق عليهم ومحاربتهم، حتى في خططهم لما بعد الحرب، وابتزازهم في أرزاقهم وبيوتهم عساهم يتخلّون عن سلاح المقاومة وفكرة المقاومة تحت ضغط الترهيب بمنع إعادة الإعمار. ولم يكن غريبًا أن يتولّى سمير جعجع التعبير صراحة عن هذا الموقف الترهيبي والعدواني؛ في مواقف مختلفة: رفض بداية أن تتولّى الدولة هذه المهمة البديهية، ثمّ واصل هذا الرفض عبر تكراره للشرط الأميركي الذي يربط بين السماح بإعادة الإعمار و"نزع" سلاح المقاومة.
تُعدّ إعادة الإعمار من أسهل واجبات الدولة، وقد لحظها البيان الوزاري، كما خطاب القسم، نقطةً أساسية في خطة العمل. إلّا أنّ الصمت "الرسمي" حيال الابتزاز الصريح القائم، بالتزامن مع تجاهل الاعتداءات "الإسرائيلية" المتواصلة، يجعل الملف أكثر تعقيدًا: الدولة العاجزة بالدبلوماسية عن صون أراضيها وسلامة مواطنيها، وتبدو عاجزة أيضًا عن اتخاذ قرار سهل وبديهي متعلّق بأقل واجباتها تجاه الناس بعد الحرب. وحُجّة العجز عن تأمين الأموال اللازمة لإعادة الإعمار تدحضها حقيقة أنّ الجمهورية الإسلامية في إيران عرضت المليارات للمساعدة في إعادة الإعمار، وكذلك وضع العراق أكثر من مليار دولار له في مصرف لبنان بالتصرّف في هذا الملف.. لم يتمّ التعامل كما يجب مع هذه العروض السخيّة وغير المشروطة والمراعية لسيادة لبنان وكرامة اللبنانيين؛ بل تجاهلها من دون خجل، فيما تتحدّث مصادر حكومية عن تعب الحكومة في محاولة الحصول على ٢٥٠ مليون دولار أميركي من البنك الدولي، مربوطة بلائحة مهينة من الشروط التي تدوس سيادة البلد وتحقّر خيارات أهله.
الغاية من هذا الابتزاز واضحة: الضغط على الناس. ينسى الأميركي وأدواته المحليّة أنّ هؤلاء الناس لم يقايضوا سلاحهم بلقمة الخبز، ولم يتخلّوا عنه تحت النار وفي الظروف الأشد صعوبة.. وينسون أنّ هؤلاء الناس قدّموا أغلى ما لديهم في طريق الدفاع عن أرضهم وكراماتهم، قدّموا الدم العزيز الطاهر واستحالوا مجتمعًا من عوائل الشهداء..
هل يتوقّع عاقل أن بعد كلّ هذه التضحيا،ت وبعد كلّ هذا الصبر، سيخضعون للشروط الأميركية كي يُسمح لهم بأن يُعاد إعمار بيوتهم؟!
كذلك ينسى الأميركي وأدواته أنّ هذه المواجهة تُخاض ضدّ قوم عُرفوا بانتصارهم للحقّ في كلّ أرض، مهما كان الثمن، وعُرفوا بمقدرتهم العالية على انتزاع حقّهم من عين عدوّهم. وفي وضح النهار، وذاكرتنا شاهدٌ أبديّ على العين المقاوِمة، وهي تكسر مخرز العدو في نيسان ١٩٩٦ وفي أيار ٢٠٠٠ وفي تموز ٢٠٠٦، وعلى المعارك الأسطورية طوال معركة "أولي البأس"، والتي لم يتمكّن خلالها العدو من دخول قرانا وبلداتنا على الرغم من حجم الدمار الذي ارتكبه.. هل لعاقل أن يظنّ أنّ عينًا رأت وعاشت كلّ هذه الإنجازات، والمذخّرة بأعزّ التضحيات، أن تخضع تحت ضغط منع إعادة الإعمار؟!
يدرك أهل المقاومة أنّ بيوتهم ستُبنى من جديد، وأرزاقهم ستعود إلى الحياة مهما حدث، وأنّهم لن يخضعوا ولن تخضع مقاومتهم للابتزاز الأميركي هذا مهما كانت التكلفة.. فهي مهما ارتفعت، لن تكون أكثر ممّا بُذل من دم وتعب في هذه الأرض المشبعة برائحة الشهداء وعبق المقاومين.. وكما أهل المقاومة، يدرك الأميركي هذه الحقيقة أيضًا، لكنّه يواصل المحاولة على سبيل العنجهية فقط، ويظنّ أن منحَ المزيد من الفرص لأدواته وأبواقه قد يجدي نفعًا، فيراهن على الوقت تارّة، وعلى الضغط تارّة، وعلى الترهيب والتهديد في كلّ حين..ولكن هيهات!
إعادة الإعمار، على الرغم من تأخّرها المدان والمستنكر، حاصلة لا محالة، وستطيح بالشروط الأميركية ومن ينطقون بها، سواء أدركت الأبواق الناعقة بالمنع والمنبطحة لما تريده أميركا ذلك أم لا.. وتلك عادتهم في كلّ حال، ففي غد ليس ببعيد، يرى أهل المقاومة بعين بصيرتهم كيف ستُبنى القرى المدمّرة على وقع هزيمة أميركا، وتلعثم أبواقها.. وهذا الغد لناظره قريب.