مقالات مختارة

وهم "انهيار حزب الله": مرونة بنيوية وحضور سياسي واجتماعي وتكافلي
حزب الله يُعبّر عن الهوية الثقافية لمجتمعه في مواجهة المخاطر الخارجية والداخلية
علي حيدر - صحيفة الأخبار
لم تنتهِ الحرب على لبنان بإعلان وقف إطلاق النار في 27 تشرين الثاني 2024، بل دخلت مرحلة جديدة بوتيرة وتكتيكات مختلفة، في مُؤشّر واضح على الإقرار بعدم تحقيق أهدافها الإستراتيجية، رغم الضربات القاسية وغير المسبوقة التي ألحقتها بحزب الله. كما كشفت عن مخاوف جدية في واشنطن وتل أبيب من استكمال حزب الله نهوضه من جديد. ولا ينفصل عن هذا السياق ما أعلنه رئيس الأركان الإسرائيلي، إيال زامير، في جلسة تقييم في المنطقة الشمالية، بحضور قائدها اللواء أوري غوردين وضباط آخرين، بأن "المعركة ضدّ حزب الله لم تنتهِ بعد، وسنواصل ملاحقته وإضعافه حتّى انهياره".
ومع عدم إغفال أن مواقف كهذه تهدف إلى تعزيز الشعور بالأمن لدى مستوطني الشمال، إلا أنها بالتأكيد تندرج في سياق إستراتيجي، وتُعبِّر عن خيار عملياتي يعكس تقييمًا إجماليًا لنتائج الحرب، وطموحًا لتحقيق ما لم يتحقق منها. وهي تأتي في ظل سياق إقليمي أوسع، من أهم معالمه التحول الإستراتيجي التاريخي الذي شهدته سورية. إذ إن النظام الجديد لم يُخفِ بعد سقوط نظام الرئيس بشار الأسد نيّته التقارب مع الغرب، وتبني أولوياته الإستراتيجية في المنطقة، خصوصًا حماية أمن "إسرائيل"، واعتمد خطابًا سياسيًا يُسهم في إحكام الطوق السياسي وغير السياسي على المقاومة الفلسطينية، وقطع - كما هو متوقع - خطّ إمداد المقاومة في لبنان، مع عمقها الإستراتيجي في إيران. وهذا كان أولوية ملحّة للولايات المتحدة و"إسرائيل" ومطلبًا أساسيًا من سورية على مدى عقود.
المعلم الآخر الذي لا يقل أهمية في التحولات الإقليمية، في أعقاب الحرب، إنتاج سلطة سياسية جديدة تبنّت خطابًا علنيًا ضدّ المقاومة وسلاحها، وطالبت بنزعه تحت عنوان حصرية السلاح، متجاهلةً الخطر "الإسرائيلي" الذي يُهدّد حاضر لبنان ومستقبله. وبدلًا من دعم إعادة إعمار ما دمّرته الحرب، لجأت هذه السلطة إلى ابتزاز بيئة حزب الله، بمنع وصول المساعدات الإيرانية والعراقية، وربط إعادة الإعمار بالخضوع للمطالب الإسرائيلية.
عقبات "إسرائيلية" مُركّبة
ورغم الاندفاعة العسكرية والإدارة الأميركية المباشرة لاستمرار الحرب، يواجه العدوّ "الإسرائيلي" عقبات مُعقّدة ومُركّبة تجعل "إضعاف حزب الله حتّى انهياره" أقرب إلى الطموح منه إلى الهدف القابل للتحقق، للأسباب الآتية:
1 - يتسم تنظيم حزب الله بأنه لا يخضع لنمط عسكري تقليدي؛ بل هو كيان مرن ولا مركزي، متداخل مع مجتمعه وبيئته، ما يُصعّب على "إسرائيل" توجيه ضربة قاضية تؤدي إلى أنهيار تنظيمه. وبرزت أهمية هذه الميزة في الحرب، فرغم حجم الضربات الهائلة والمفاجئة، واصلت القيادة الجديدة إدارة الحرب ونجحت في احتواء تداعيات الضربات السابقة، وإعادة النهوض لمواجهة العدوّ في مسار تصاعدي حتّى اليوم الأخير.
2 - ما يُميّز حزب الله عن غيره من القوى، أنه يُعبّر عن الهوية الثقافية لمجتمعه، في مواجهة المخاطر الخارجية والداخلية. ولذلك هو ليس حالة منفصلة عنه، بل جزء من الحياة اليومية لمجتمعه، في الجنوب والضاحية الجنوبية والبقاع ومناطق أخرى. ويعني ذلك أن ضرب المقاومة هو ضرب لنسيج اجتماعي وليس فقط لأفراد مُحدّدين، ما يُعقّد المهمّة الإسرائيلية.
3 - اظهرت الأيام، أنه وعلى الرغم من الضربات القاسية التي تعرض لها "مجتمع المقاومة"، إلّا أنه لا يزال يلتفُّ حولها بمستويات فاجأت كلّ خصومه. وهي ظاهرة تحتاج إلى دراسة مُفصّلة، كونها تُعبّر عن وعي هذا المجتمع للمخاطر المُحدقة به داخليًّا وخارجيا. ما ساعد على مواجهة كلّ عمليات التضليل والحرب النفسية. وجاء تشييع الأمينين العامَّين السابقين لحزب الله، السيدين الشهيدين حسن نصر الله وهاشم صفي الدين، لتعكس هذه الخلاصة، كما هو الحال مع الموجات الشعبية التي اتجهت نحو المناطق المُحتلة قبل مرور مهلة ال60 يوما، وصولًا إلى نتائج الانتخابات البلدية الأخيرة.
4 - لا يستطيع المراقب، تجاهل الدور الرئيسي للعقيدة التي تحملها المقاومة وبيئتها ودورها في تثبيتها وتصميمها. وهي عنصر يضاف إلى الوعي السياسي ما يضمن وجهتها نحو حماية شعبها ووطنها. ونجح العنصر العقائدي في أن يصبح عامل تحييد لمفاعيل الكثير من أدوات التدمير والإجرام التي ترتكز عليها عقيدتي الردع والحسم في جيش العدو.
حيّد البُعد العقائدي للمقاومة مفاعيل الكثير من أدوات التدمير والإجرام الإسرائيلية
استجابة حزب الله وإعادة تموضعه
خلال وبعد الحرب القاسية، اتّخذ حزب الله وجهة عملانية دلت على تعلمه من الضربات القاسية. وهو باشر خطوات منها:
1 - بدأ حزب الله في إعادة هيكلته الداخلية خلال الحرب، واستمر بوتيرة متطورة بعد 27 تشرين الثاني الماضي. وعمد إلى توزيع القيادات وتطوير منظومة القيادة البديلة، وتقليص التمركز التقليدي، واعتمد تكتيكات مرنة في أكثر من مجال. وقد برزت نتائج هذا المتغير خلال الحرب عبر وقف مسلسل الضربات التدميرية للمنظومة القيادية، ومكّنت القيادة البديلة برئاسة أمينها العام الجديد الشيخ نعيم قاسم، من إدارة الحرب ودفعها في الاتّجاه غير المخطّط له أميركيًا، بنسبة مهمة.
2 - يكشف أداء الولايات المتحدة و"إسرائيل" عن خشيتهما الظاهرة من أن يعيد حزب الله بناء قدراته العسكرية. خاصة وأنه كان ولا يزال يملك بنية تحتية واسعة جدًا تُمكّنه من هذا الخيار. ولذلك تتعامل "تل أبيب" وواشنطن وبعض أعداء المقاومة في الداخل بأن هناك وقتًا محدودًا لتأدية المهمّة وتحقيق الأهداف. وبدأت تصدر في "إسرائيل" بعض التقديرات التي تحذر من أن عدم ردّ حزب الله على الضربات الإسرائيلية، هو جزء من خطة من أجل كسب المزيد من الوقت في إعادة تطوير قدراته العسكرية وملاءمتها مع المستجدات.
3 – لجأ حزب الله إلى استغلال الحرب، لاجل رفع مستوى الوعي إزاء المخاطر المحدقة بلبنان ومقاومته. وهو ما يترجم على شكل مطالب القاعدة من القيادة الجديدة، لجهة الاستفادة ممّا مضى، واستخلاص العبر.
4 - أمام انكفاء الدولة اللبنانية عن القيام بغالبية مهماتها تجاه شريحة واسعة من شعبها، أكد حزب الله التزامه مسؤولياته الاجتماعية. فواصل إمداد قواعده وبيئته بما أمكن من المقومات التي تخفف من المعاناة. ولا يخفى أن لهذا الأداء السلبي من قبل الدولة والإيجابي جدًا من قبل حزب الله مفاعيله وتأثيره الكبير على مجمل المشهد في لبنان.
في الخلاصة، تضرر حزب الله عسكريًا بعمق، لكنّه لا يزال يمتلك بنية قتالية كامنة وفاعلة وقدرة على الرّد والدفاع، وهي في مسار تصاعدي. أما سياسيًا، فحتّى اللحظة، لم تنجح كلّ محاولات عزله وتجاوزه في الاستحقاقات والمحطات المفصلية. بينما لا يزال مجتمع المقاومة يرى فيه عامل الدعم اجتماعيا. لذلك، لا يكفي أن تطمح "إسرائيل" إلى أنهيار حزب الله حتّى يتحقق ذلك، لأنها ستصطدم بواقع معقّد يُظهر أن الحزب أعمق من كونه بنية عسكرية. إنه كيان عقائدي، اجتماعي، سياسي، ويملك قدرة على التكيف والاستمرار.