مقالات

حرب الظلال بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والكيان "الإسرائيلي"
من فشل المفاوضات إلى شبح المواجهة الكبرى
بينما كانت طهران تأمل أن تفضي جولات التفاوض مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية إلى تخفيف الضغط الاقتصادي، بدا المشهد مختلفًا تمامًا. انكشاف الاعتداءات "الإسرائيلية"، بمشاركة أميركية واضحة، رسّخ القناعة لدى القيادة الإيرانية بأن واشنطن لا تسعى إلى تسوية عادلة، بل إلى فرض استسلام كامل. من هنا بدأت تتبلور ملامح مرحلة جديدة: مرحلة مواجهة مفتوحة، قد تتحول إلى حرب واسعة النطاق تتجاوز حدود إيران والكيان "الإسرائيلي" لتشمل الإقليم بأسره.
محاولات الولايات المتحدة الأميركية إجبار الجمهورية الإسلامية الإيرانية بالقبول بمفاوضات بحسب شروطها وضعت هذه الرغبة في مأزق بسبب وهم التفاهم الخادع وسيف العقوبات الذي دفعت به الدول الأوروبية الثلاث فرنسا وبريطانيا وألمانيا مدفوعة من الأميركي.
إيران مرت بتجربتين تركتا أثرًا بالغًا على موقفها وأفقدتاها الثقة بالطرف الآخر:
الأولى مع توقيع الاتفاق النووي ثمّ انسحاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب منه، ما أفقد طهران الثقة بالضمانات الغربية.
الثانية خلال جولات التفاوض الأخيرة، حيث ترافقت التطمينات الأميركية مع عمليات عسكرية "إسرائيلية" ضدّ إيران، في ما اعتبرته طهران "طعنة في ظهر الدبلوماسية".
وزير الخارجية الإيراني عباس عراقتشي صرّح علنًا بأن أميركا لا تريد مفاوضات بل تسعى إلى إخضاع إيران لشروطها، وهي شروط ترتبط بالمصالح الأميركية وشروط الكيان "الإسرائيلي" حصرًا، فيما الأوروبيون اكتفوا بتكرار الضغوط وتفعيل "السناب باك" لإعادة العقوبات.
مطالب الغرب: النووي والصواريخ وأمن "إسرائيل" أولًا
أبرز ما أثار غضب طهران ودفعها للتشدد في مواقفها هو إعادة طرح مطلبين تعتبرهما "خطوطًا حمراء":
1. التفتيش المشدد من قبل وكالة الطاقة الذرية، بما يتجاوز المعايير المعمول بها.
2. البرنامج الصاروخي الإيراني، الذي يُنظر إليه في الغرب بوصفه تهديدًا مباشرًا للكيان "الإسرائيلي".
وما وصف الرئيس الإيراني مسعود بازشكيان هذه المطالب بـ"السخيفة"، إلا تأكيد على إن بلاده لن تساوم على أمنها ولا على برنامجها الدفاعي، موضحًا أن البقاء تحت العقوبات القاسية أهون من تقديم تنازل إستراتيجي يجعل الجمهورية الإسلامية أسيرة الإرادة الأميركية - "الإسرائيلية".
مدفوعة بالحذر من خبث الغرب فعلت إيران عقيدة الاستعداد والردع تحسبًا للحرب، فمع انسداد أفق التفاوض، انتقل النقاش في طهران إلى المستوى العسكري. رئيس أركان الجيش دعا علنًا إلى الاستعداد والتعبئة، مؤكدًا أن الوضع دخل مرحلة خطيرة تتطلب حماية السماء عبر تعزيز الدفاعات الجوية.
التنسيق مع روسيا والصين ازداد زخمًا، خصوصًا في مجالات الدفاع الجوي وتطوير الترسانة الصاروخية. وبات الحديث في الدوائر الإيرانية عن "حرب وجودية" لا مجال فيها للتراجع. الجنرال محمد رضائي أعلن بوضوح أن "لا خطوط حمراء بعد اليوم"، وأن أي حرب مقبلة قد تشهد استخدام ما يصل إلى 30% من الصواريخ الباليستية الإيرانية وهذا دليل ثقة مؤكدة بإمكانيات إيران، ما يعني تهديدًا مباشرًا لمئات الأهداف داخل الكيان "الإسرائيلي".
أما من ناحية الكيان "الإسرائيلي" فمسؤولوه دخلوا في دائرة القلق لناحية محاولة تعزيز التفوق الجوي واستخلاص الدروس من الفشل الاستخباراتي الذي مني به في المرة السابقة بعدم قدرته على تحسب قدرات القوات الإيرانية وردات الفعل بالرغم مما أصاب الجمهورية الإسلامية الإيرانية في أول ثماني عشرة ساعة.
يشعر الكيان "الإسرائيلي" بقلق متزايد. الحرب السابقة، التي استمرت 12 يومًا، أثبتت محدودية قدراته الدفاعية رغم كلّ الدعم الأميركي والغربي. فالصواريخ الإيرانية نجحت في اختراق منظومات "القبة الحديدية" و"مقلاع داود"، ومنظومة ثاد الأميركية محدثين دمارًا داخليًا أجبر "تل أبيب" على المسارعة واللجوء للأميركي لطلب وقف إطلاق النار.
اليوم، يستعد جيش الاحتلال "الإسرائيلي" للحرب القادمة عبر تخزين المزيد من الصواريخ الاعتراضية وتجربة أنظمة جديدة كسلاح الليزر المضاد للطائرات المسيّرة، لكنّه يواجه مأزقًا أكبر: الفشل الاستخباراتي. فقد تمكّنت إيران من القبض على معظم عملاء الكيان "الإسرائيلي" داخل أراضيها وإعدامهم، ما شكّل ضربة قاسية لقدرة "تل أبيب" على جمع المعلومات.
صحيفة "يسرائيل هيوم" نفسها أقرت بأن قدرة إيران على الصمود كانت أكبر من المتوقع، رغم خسارتها عددًا من علمائها وقادتها العسكريين في الضربات الأولى.
أما في إيران فالوحدة الداخلية بانت بأقوى أشكالها، فللمفارقة أن الضغوط الغربية والاعتداءات العسكرية دفعت حتّى المعارضة الإيرانية إلى الاصطفاف خلف النظام، في مشهد غير مألوف. هذا التماسك الداخلي جعل القيادة الإيرانية أكثر جرأة في إعلان مواقفها، واعتبار أن أي مواجهة مع الكيان "الإسرائيلي" وأميركا باتت معركة بقاء، لا مجرد معركة سياسية وأنها إذا تعرضت لأي اعتداء فلا خطوط حمراء وسيتم تدمير الكيان في حرب لن تدوم طويلًا.
سيناريوهات المواجهة المقبلة
1. حرب صاروخية مفتوحة: إيران قادرة على إطلاق آلاف الصواريخ يوميًا نحو "إسرائيل"، ما يجعل القدرة على الاعتراض محدودة ويهدّد البنى التحتية الحيوية بكلّ أشكالها مما سيضع الكيان في خطر وجودي خصوصًا أنه تبين أن إيران لديها بنك أهداف متنوع ودقيق أضيف إليه الخرق الاستخباري الأخير حتّى لمفاعل ديمونا النووي مما يضع الكيان على حافة الاندثار.
2. توسيع الجبهات: حزب الله في لبنان، الفصائل في غزّة، والمجموعات المتحالفة في العراق وأنصار الله في اليمن، قد يفتحون جبهات متزامنة تُربك "إسرائيل" وتضعها أمام استنزاف طويل الأمد بل حتّى سيساهمون في إنهاء الحرب بأقصر مما يتوقع الغرب والعدو "الإسرائيلي".
3. حرب استخباراتية وإلكترونية: وهذه أساسًا لم تتوقف منذ عقود لكن لوحظ أخيرًا كثرة الاختراقات السيبرانية المتبادلة التي تسعى لشلّ المصارف والبنى الحيوية وهي بلا شك ستشكّل جبهة أساسية في الحرب القادمة.
4. تدخّل دولي: أي مواجهة طويلة ستستدعي ضغوطًا دولية عاجلة، خوفًا من انفلات الصراع نحو حرب إقليمية لن تبقي ولن تذر بل إنها وبشكل مؤكد سيكون لها الأثر الكبير على الاقتصاد العالمي.
ختامًا المشهد الراهن يشي بأن الباب الدبلوماسي أغلق، وأن الحرب باتت احتمالًا مرجحًا وليس مجرد تهويل سياسي.
إيران مقتنعة أن واشنطن لا تريد تسوية بل استسلامًا، و"إسرائيل" ترى أن تأجيل المواجهة يمنح طهران وقتًا إضافيًا لتعزيز قوتها.
بين هذين الإدراكين، يبقى الشرق الأوسط على فوهة بركان، حيث إن أي شرارة قد تُطلق حربًا لا تقتصر على طهران وتل أبيب بل تمتد إلى المنطقة بأسرها، وربما أبعد.