اهلا وسهلا...
موقع العهد الاخباري

كانت البداية في 18 حزيران/ يونيو 1984 في جريدة اسبوعية باسم العهد، ومن ثم في 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 1999 أطلقت النسخة الاولى من جريدة العهد على الانترنت إلى ان أصبحت اليوم موقعاً إخبارياً يومياً سياسياً شاملاً

للتواصل: [email protected]
00961555712

المقال التالي نشاط حلفاء أميركا و"إسرائيل" من اللبنانيين في واشنطن: نحن لا نريد الحزب كله!

مقالات مختارة

تقنينٌ لاستخدام الضباط للتكنولوجيا:
مقالات مختارة

تقنينٌ لاستخدام الضباط للتكنولوجيا: "إسرائيل" تركن إلى الأمن الوقائي

49

يحيى دبوق - صحيفة الأخبار

لم تكن عملية "طوفان الأقصى"، في السابع من أكتوبر 2023، مجرّد حدث ميداني؛ بل هي شكّلت صدمةً عميقة لِما يصفه الخبراء الأمنيون في تل أبيب، بـ"هوية "إسرائيل" الأمنية"، وهزّت أحد أعمدة "عظمتها" وقدراتها، والمتمثّل في "التفوّق التكنولوجي المطلَق". وبعد عامين وشهر واحد على تلك العملية، يتواصل تناسُل مفاعيلها على ذلك الصعيد، وآخرها أمر عسكري داخلي سُرِّب أخيرًا إلى الإعلام العبري، مفاده أنه اعتبارًا من كانون الأول الجاري، يُمنع ضباط الجيش "الإسرائيلي"  من الرتب العليا من استخدام هواتف تعمل بنظام "أندرويد" في أيّ نشاط عسكري، ويُفرض عليهم الانتقال فورًا إلى هواتف "آيفون" العاملة بنظام "آي أو إس".

والقرار هذا ليس تقنيًّا فقط، ولا هو إجراء روتيني، كما إنه لم يستند إلى ثغرة حرجة اكتُشفت حديثًا؛ بل الواضح أن له الكثير من الدلالات الإستراتيجية، كونه يمثّل اعترافًا غير مباشر - من واحد من أقوى أجهزة الاستخبارات في المنطقة - بأن ما كان يُنظر إليه سابقًا على أنه أداة مساعِدة في جمع المعلومات عن العدو، أو ثغرة محتملة لاختراق صفوفه، بات هو نفسه تهديدًا للأمن ال"إسرائيلي". فالخرق المحتمل لهذه الهواتف وغيرها من الأجهزة والأنظمة الذكية - ومن بينها السيارات -، لا يُهدّد فحسب خصوصية المستخدم، إنما يمكن أن يفضح أيضًا أسرارًا عسكرية وأمنية وتقييمات استخبارية ومواقع قواعد عسكرية غير معلَنة، وحتّى مواقع وجود الضباط وخريطة تنقلاتهم.
لكن، ما الذي دفع "إسرائيل"، الآن، إلى مثل هذا الإجراء الذي قد لا يكون الوحيد قياسًا على ما لم يُسرّب بعد؟ قد تكمن الإجابة في طبيعة المواجهات الحديثة غير التقليدية، نظرًا إلى أن جزءًا رئيسًا من ديناميات الحروب الحالية لا يدار بالطائرات والدبابات فقط، بل بأكواد الأنظمة والثغرات البرمجية، إلى حدّ أن الأجهزة الذكية أضحت ساحة صراع خفيّ بين القوى المتعادية والمتحالفة على السواء، وهو ما ينطبق على ما بين "إسرائيل" وأعدائها، وحتّى بينها وبين حلفائها. وفي عالمٍ لم تَعُد فيه صناعة الإلكترونيات الاستهلاكية حكرًا على دولة واحدة، خصوصًا أن المكونات البرمجية والمادية تُصمَّم عبر شبكات عالمية متداخلة - تشمل شركات من دول ذات مصالح متعارضة -، فإن الخطر يتجاوز ما يُثبّته المستخدم على جهازه، إلى ما زُرع فيه من قِبل الشركة المصنّعة أو شركائها قبل أن يصل إلى يده، في ما يضاعف عدد المدخلات الأمنية في هذا النظام العالمي، من احتمالات الثغرات والاختراقات. وعليه، فإن "إسرائيل"، التي بنت جزءًا كبيرًا من قوّتها على استغلال هذه الثغرات لمصلحتها، تدرك جيدًا أن العدو، وأيضًا الحليف، قادر على استغلال الأدوات نفسها ضدّها.

ولم يقتصر القرار "الإسرائيلي"  الأخير على الهواتف، بل إن وحدات أمنية "إسرائيلية" سحبت أيضًا مئات السيارات الصينية من كبار الضباط، نظرًا إلى أن أنظمة الملاحة والاتّصالات المدمجة فيها تسجّل بيانات حسّاسة - كمسارات التحرّكات والمواقع - وترسلها إلى الشركات المصنّعة، ممّا يفتح الباب أمام الخصوم والأعداء لرسم خريطة حيّة لتحرّكات القيادة العسكرية. أما في خصوص الهواتف، فقد يكون السماح باستخدام "آيفون" حصرًا، مردّه أن هذا الهاتف أميركي المنشأ، وأكثر أمانًا. لكن "إسرائيل" تعرف، أكثر من غيرها، أن "آيفون" ليس محصّنًا بالمطلق، وأنها هي نفسها اخترقته مرارًا. ومع ذلك، فإن المفاضلة هنا هي بين السيّئ جدًا والأقلّ سوءًا، لا بين الجيد والرديء؛ أي إن تل أبيب تقول إنها تثق بـ"آيفون"، لكنّها تفضّل مستوى أقلّ خطورة. وهي، بهذا، تُظهر "نضجًا أمنيًّا" مبنيًّّا على الاحتراز، عنوانه أن التفوّق لا يقاس بالقدرة على اختراق الخصوم والأعداء فقط، بل بالقدرة على صدّ اختراقاتهم، حتّى لو بالاعتراف بالهشاشة الذاتية النسبية.
والنتيجة الواضحة هي أنه "لا توجد تكنولوجيا محايدة"؛ فكلّ  جهاز ذكي، وكلّ  تطبيق، وكلّ تحديث، هو نتاج شبكة عالمية من المصالح والسياسات، وقد يحمل في طيّاته وسائل تجسّس أو تتبّع لا يعلم بها المستخدم. ومع تعدُّد جهات التصنيع والبرمجة، تتعدّد مستويات التهديد وإمكانات الخرق والثغرات. وعليه، فإن "إسرائيل"، التي أنفقت المليارات لبناء قدرات اختراق غير مسبوقة، تجد نفسها اليوم مضطرّة إلى اتّخاذ إجراءات وقائية تشبه تلك التي تُنصح بها الدول "الضعيفة"، باعتبار أن التكنولوجيا، في النهاية، ليست سلاحًا أحادي الاتّجاه، وأن الإنجازات الهجومية لا تكفي وحدها إن لم يُحصّن صاحبها نفسه وقائيًّا ودفاعيًّا.

الكلمات المفتاحية
مشاركة