الانتخابات البلدية والاختيارية 2025

آراء وتحليلات

لبنان في ظل الوصاية من فخر الدين إلى أورتاغوس
15/04/2025

لبنان في ظل الوصاية من فخر الدين إلى أورتاغوس

تذكر مرويات التاريخ اللبناني أن السلطان العثماني سليم الأول، وبعد انتصاره على المماليك في معركة مرج دابق في العام 1516، عيّن الأمير فخر الدين حاكمًا على إمارة الشوف ولاحقًا على جبل لبنان خلفًا لوالده عثمان، والذي ورثها بدوره عن أبيه؛ ومنحه لقب "سلطان البر" مقابل مبايعته والولاء والخضوع لسلطة الباب العالي. 

تركّزت مهمته على تثبيت حكم العثمانيين وجباية الضرائب وقمع أي حركة تطالب بالاستقلال. ولكن عندما عمل فخر الدين على توسيع دائرة نفوذه وتواصل مع الأوروبيين خروجًا عن طاعة السلطان العثماني؛ أرسل الأخير من يقتله في العام 1544، وآل الحكم لابنه قرقماز الذي قُتل بدوره على يد والي مصر إبراهيم باشا في العام 1584 بعد أن اتهمه أمير طرابلس وعكار يوسف سيفًا وأمير البقاع ابن فريخ بحادثة سرقة قافلة تحمل خراج مصر وفلسطين التي كانت متجهة إلى إسطنبول، فانتقل الحكم لابنه الأمير فخر الدين الثاني. 

استفاد الحاكم الجديد في البداية من تجارب الحكام الذين سبقوه؛ فعمل وفقًا لتوجيهات الباب العالي بكل إخلاص، واستطاع توحيد إمارات "الساحل الشامي". وقيل عنه إنه "مؤسس لبنان الحديث". وما لبث الوالي الطموح أن وقع في خطأ أسلافه؛ ففتح خطوط الاتصال مع إيطاليا (توسكانا) ومع أسبانيا القوية آنذاك تحت مظلة التجارة، وأغدق الأوروبيون مساعداتهم فانعكس ازدهارًا اقتصاديًا في لبنان والمحيط. 

لكن في الواقع أن الدول الأوروبية كانت تسعى من وراء ذلك إلى استعادة نفوذها في الشرق، والذي زال بانتهاء الحروب الصليبية، فرأت في فخر الدين جسرًا مناسبًا لهذه العودة؛ فعقدت معه تحالفًا قضى بمدّه بالمال والسلاح ومنحه امتيازات خاصة؛ فضلًا عن تحصيل براءة من البابا بولس الخامس يأمر فيها موارنة لبنان أن يقفوا معه في الحروب ضد العثمانيين. وبالفعل انقلب فخر الدين على "الباب العالي" بتحريض من الأوروبيين، وخاض معركة ضد الجيش العثماني في العام 1623 بالقرب من مجدل عنجر، وانتهت بانتصاره وأسر والي دمشق مصطفى باشا. واستطاع بذلك أن يوسّع نطاق حكمه من حلب إلى العريش شمال سيناء، ولم يدم هذا الحكم أكثر من عشر سنوات؛ حين جنّد السلطان مراد الرابع حملة عسكرية ضخمة ألقت القبض على فخر الدين واقتادته إلى إسطنبول؛ حيث أُعدم.

تلك كانت حقبة من تاريخ لبنان التي تكرّرت على مدى السنوات اللاحقة، وما تزال تتكرّر بأوجه مختلفة. ولو أحسنّا الظن بوجود دوافع وطنية "استقلالية" أخذت بفخر الدين للارتماء في الحضن الأوروبي، إلا أن سير الوقائع والنتائج لم تأخذ بلبنان إلى الاستقلال بقدر ما جعلته رقعة جغرافية قابلة للاحتلال. إذ إن الأوروبي الذي ترك فخر الدين يقاتل وحده مع جيشه الخليط من اللبنانيين والمرتزقة عاد وفرض احتلاله على سوريا ولبنان وفلسطين، بعد أن نجح في إسقاط حكم السلطنة وطردها من المنطقة، فانتقل لبنان من حكم الولاة العثمانيين إلى حكم المندوب السامي الفرنسي، وبعدها إلى حكم المتصرّفية الذي يحمل ما يحمل من إهانة وإذلال للبنانيين بذريعة عدم أهليتهم للحكم وحاجتهم للخضوع إلى تجارب إدارية تأهيلية ليحكموا أنفسهم بأنفسهم. وهذه الذريعة مستمرة حتى اليوم؛ وما يزال لبنان ومنذ الإعلان عن استقلاله الملتبس يخضع للوصاية الخارجية.

قيل حوالي الأسبوع؛ جاءت إلى بيروت المندوبة السامية الجمهورية مورغان أورتاغوس خلفًا لسلفها المندوب السامي الديمقراطي آموس هوكستين - كلاهما يجاهران بانتمائهما الصهيوني وتأييدهما لـ"إسرائيل" – وجالت على الرؤساء اللبنانيين، وفي جيدها نجمة داوود جهرًا وخفية، فيما استدعت مجموعة من الوزراء والنواب السياديين وآخرين من "الناشطين السياسيين" إلى السفارة الأمريكية في عوكر، و"توّجت" جولتها بـ "الوالي" سمير جعجع في معراب في لقاء خصّص لإجراء جردة بالتحرّكات السابقة واستعراض للتحركات المقبلة في سياق الأجندة المعلنة وغير المعلنة، لقد كرّرت أورتاغوس مطالب إدارتها المجنونة التي تشعل سعار الفوضى والحرب التجارية في العالم، لتكرّس الاحتلال الأمريكي للبنان وتفرض الشروط "الإسرائيلية"؛ ضاربة بعرض الحائط الأعراف الدبلوماسية كلّها من دون أدنى احترام للسيادة اللبنانية.

لاقت مندوبة ترامب ردًا رسميًا لبنانيًا موحّدًا وواضحًا عبّر عنه الرؤساء الثلاثة. وفي أبرز مضامينه رفض المسعى الأمريكي لإثارة الفوضى وضرب الاستقرار في الداخل اللبناني، من خلال الإصرار على نزع سلاح المقاومة. وفي هذا المطلب خرق مباشر للقرار 1701، يضاف إلى الخروقات "الإسرائيلية" المستمرة، سواء بإبقاء احتلالها للنقاط الخمس داخل الأراضي اللبنانية أم بالاعتداءات التي تطال المواطنين اللبنانيين في مناطق الجنوب وفي قلب الضاحية الجنوبية. كما لم يستثنِ الاحتلال في عدوانه مراكز الجيش اللبناني وجنوده المنتشرين في قرى الجنوب أو حتى قوات "اليونيفيل"، على أن التغاضي المقصود للجنة المراقبة الدولية المرؤوسة أمريكيًا عن هذه الممارسات الإجرامية هو ما يشجّع العدو على التمادي في عدوانه، ما استلزم موقفًا صارمًا من قيادة حزب الله على لسان الأمين العام لحزب الله سماحة الشيخ نعيم قاسم. ومفاده أن المقاومة ما تزال تلتزم بتعهداتها باحترام تطبيق القرار 1701، ولكن هذا الأمر لن يدوم طويلًا في حال عجزت الدولة اللبنانية عن ردع العدو بالوسائل الدبلوماسية، أما ما يحكى عن نزع سلاح المقاومة فهو خارج النقاش، ونقطة على السطر.

في هذا السياق، يلفت مراقبون إلى أن التهويل الذي سبق زيارة مندوبة الاحتلال الأمريكي أورتاغوس إلى بيروت يصب في خانة الضغط النفسي على البيئة اللبنانية بشكل عام، وعلى بيئة المقاومة بشكل خاص، خصوصًا فيما يتعلق بربط السماح بإعادة إعمار ما هدمته الحرب "الإسرائيلية" بنزع سلاح المقاومة. ويرجّح هؤلاء استمرار حملات الضغط هذه من زوايا مثلثة الأضلاع. 

أولها: استمرار الاعتداءات "الإسرائيلية" التي تهدف إلى إرساء عدم الاستقرار وتكريس إسقاط معادلة الردع.

ثانيها: الإلحاح الأمريكي المباشر على أركان الدولة اللبنانية بتجاوز مفاعيل القرار 1701 باتجاه نزع سلاح المقاومة؛ بذريعة تمكين الجيش اللبناني من بسط سلطته على الأراضي اللبنانية. 

ثالثها: النقيق الداخلي الذي تمارسه الأطراف الموجّهة أمريكيًا بهدف إثارة الغبار وإبقاء البلد منقسمًا سياسيًا، تحت عناوين مذهبية وطائفية.

أمام هذا الواقع؛ يبقى الرهان على اللبنانيين الشرفاء الذين يؤكدون انتماءهم الوطني الحقيقي برفض الطروحات التي يطلقها من وقت إلى آخر بعض الداخل، وتردّد المقولات الأمريكية – "الإسرائيلية" التي تسوّق للتسوية مع العدو من قبيل التطبيع أو قبول التعايش السلمي مع "إسرائيل". 

كذلك الرهان على بيئة المقاومة التي تثبت، يومًا بعد يومًا وبعد كل اعتداء "إسرائيلي"، تمسّكها بسلاح المقاومة خيارًا أكيدًا لمواجهة العدوان وتحرير الأرض والأسرى واسترجاع الحقوق. 

لعلّ أكثر ما يضحك أن ينبري البعض لتسويغ جرائم الاحتلال بأنها رد فعل على وجود المقاومة وسلاحها!! وكأنّ هؤلاء يسوّغون للقاتل ارتكاب جريمته، ويطالبون الضحية بالاستسلام وعدم المقاومة حتى يمعن المجرم في ممارسة إرهابه.. وعلى هؤلاء أن يقرأوا التاريخ القريب جيدًا، من فخر الدين وما قبله وبعده إلى يومنا هذا، كي لا تستمر مأساة لبنان من احتلال لاحتلال، فلا سيادة في ظل الاحتلال.

لبنانالولايات المتحدة الأميركيةالكيان الصهيونيالمقاومة

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات

التغطية الإخبارية
مقالات مرتبطة
في مرفأ طرابلس.. تفريغ معدّة ضخمة بـ 140 طنًا 
في مرفأ طرابلس.. تفريغ معدّة ضخمة بـ 140 طنًا 
عيترون: خطط بلدية للتعافي وإصرار أهلي على رفع آثار العدوان
عيترون: خطط بلدية للتعافي وإصرار أهلي على رفع آثار العدوان
لائحة "التنمية والوفاء" في بعلبك تعلن عن برنامجها الانتخابي الشامل
لائحة "التنمية والوفاء" في بعلبك تعلن عن برنامجها الانتخابي الشامل
وزيرة البيئة جالت على القرى الحدودية: أكثر من 8 آلاف هكتار من الأراضي الحرجية والزراعية أحرقها العدو
وزيرة البيئة جالت على القرى الحدودية: أكثر من 8 آلاف هكتار من الأراضي الحرجية والزراعية أحرقها العدو
كتلة الوفاء للمقاومة: الاحتلال يتمادى في اعتداءاته بدعم وتغطية استبدادية من ممثلي الإدارة الأميركية
كتلة الوفاء للمقاومة: الاحتلال يتمادى في اعتداءاته بدعم وتغطية استبدادية من ممثلي الإدارة الأميركية
سفير الولايات المتحدة في الكيان: لسنا ملزمين بالحصول على إذن من "إسرائيل" لعقد اتفاق مع "الحوثيين"‎
سفير الولايات المتحدة في الكيان: لسنا ملزمين بالحصول على إذن من "إسرائيل" لعقد اتفاق مع "الحوثيين"‎
انتخاب الأميركي روبرت فرنسيس بريفوست بابا جديدًا للفاتيكان
انتخاب الأميركي روبرت فرنسيس بريفوست بابا جديدًا للفاتيكان
المشاط: الرد على العدوان "الإسرائيلي" سيكون مزلزلاً وبزخم كبير
المشاط: الرد على العدوان "الإسرائيلي" سيكون مزلزلاً وبزخم كبير
الثقة تهتزّ بين ترامب ونتنياهو
الثقة تهتزّ بين ترامب ونتنياهو
مصادر مقربة من الرئيس الأمريكي: ترامب فقد صبره تجاه نتنياهو
مصادر مقربة من الرئيس الأمريكي: ترامب فقد صبره تجاه نتنياهو
محادثات ترامب والسعودية المرتقبة.. خيبة "اسرائيلية" تجاه إهمال مطلب التطبيع
محادثات ترامب والسعودية المرتقبة.. خيبة "اسرائيلية" تجاه إهمال مطلب التطبيع
صاروخ بن غوريون وتغيير المعادلات: كيف فرضت القوات اليمنية المسلحة الحصار الجوي على "إسرائيل"؟
صاروخ بن غوريون وتغيير المعادلات: كيف فرضت القوات اليمنية المسلحة الحصار الجوي على "إسرائيل"؟
المقاومة الفلسطينية تكبّد الاحتلال خسائر فادحة في رفح: مقتل جنديين وإصابة ستة آخرين
المقاومة الفلسطينية تكبّد الاحتلال خسائر فادحة في رفح: مقتل جنديين وإصابة ستة آخرين
القسام تعلن عن سلسلة عمليات نوعية.. قتلى وجرحى بين جنود الاحتلال برفح
القسام تعلن عن سلسلة عمليات نوعية.. قتلى وجرحى بين جنود الاحتلال برفح
سلامي ردًا على التهديدات الأميركية والصهيونية: أي خطأ ترتكبونه سيفتح أبواب جهنم في وجوهكم
سلامي ردًا على التهديدات الأميركية والصهيونية: أي خطأ ترتكبونه سيفتح أبواب جهنم في وجوهكم
أسباب اتهام إيران بالوقوف خلف صواريخ أنصار الله
أسباب اتهام إيران بالوقوف خلف صواريخ أنصار الله
التصعيد "الإسرائيلي" على لبنان لا يخدم المصلحة الأميركية
التصعيد "الإسرائيلي" على لبنان لا يخدم المصلحة الأميركية
حزب الله في صيدا بحث تطوّرات المنطقة مع الحزب السوري القومي
حزب الله في صيدا بحث تطوّرات المنطقة مع الحزب السوري القومي
إيران ترفض الإملاءات الأميركية: سلاح المقاومة حق مشروع وشأن لبناني داخلي
إيران ترفض الإملاءات الأميركية: سلاح المقاومة حق مشروع وشأن لبناني داخلي
أبعد من حماية مزعومة: العدوان "الإسرائيلي" وصياغة دور سورية الجديد
أبعد من حماية مزعومة: العدوان "الإسرائيلي" وصياغة دور سورية الجديد