تكنولوجيا وأمن معلومات

تاريخ الذكاء الاصطناعي: من آلة تورينغ إلى اليوم
19/04/2025

تاريخ الذكاء الاصطناعي: من آلة تورينغ إلى اليوم

تخيل حياتك اليومية من دون الذكاء الاصطناعي، حيث لا روبوتات ذكية تتحدث معك، ولا أنظمة قادرة على تشخيص الأمراض، ولا خوارزميات تفهم كلامك أو تحلل الصور والأصوات. تخيل عالماً يخلو من ChatGPT، وDALL·E، وسيارات تقود نفسها، وحتى أنظمة الذكاء التي تُستخدم في استكشاف الفضاء أو تطوير الأدوية. يبدو هذا العالم أقل كفاءة بكثير، أليس كذلك؟ قد يبدو هذا العالم كأنه من الماضي البعيد، لكنه في الحقيقة لم يكن بعيدًا جدًا. ما نشهده اليوم من تقنيات ذكية هو ثمرة رحلة طويلة من البحث والتجريب بدأت قبل عقود، بأفكار بدائية وسعي حثيث لفهم الذكاء وتحويله إلى خوارزميات يمكن للآلة أن تنفذها. لقد كان طريقًا مليئًا بالتحديات والانتصارات، قادنا إلى ما نحن عليه اليوم.


لكن قبل أن نبدأ رحلتنا، لا بد أن نطرح سؤالًا جوهريًا: ما الذكاء الاصطناعي؟ هل هو محاولة لتقليد تفكير الإنسان؟ أم هو مجرد إنتاج لسلوك يبدو ذكيًا من دون وعي حقيقي؟ هذا السؤال الفلسفي شكّل الخلفية العميقة التي انطلقت منها أبحاث الذكاء الاصطناعي، ولا تزال النقاشات حوله مستمرة حتى اليوم بين العلماء والفلاسفة: هل نحاكي الذكاء البشري؟ أم نخلق ذكاءً من نوع آخر؟


البداية: آلة تورينغ والسؤال الذي غيّر كل شيء


في الأربعينيات، كان العالم في خضم الحرب العالمية الثانية. هنا برز آلان تورينغ، عالم رياضيات بريطاني بفكر ثوري. تورينغ اخترع جهازًا يُسمى "آلة تورينغ"، وكان هدفه مساعدة الحلفاء في فك شيفرة "إنيغما"، وهي آلة تشفير سرية استخدمها الألمان لإرسال رسائل عسكرية. الجهاز لم يكن مجرد آلة حاسبة، بل كان يحاكي طريقة التفكير البسيطة، إذا أعطيته تعليمات واضحة، يمكنه حل المشكلات خطوة بخطوة. إذا شاهدت فيلم "The Imitation Game"، ستشعر بمدى التوتر والعبقرية في تلك اللحظة التاريخية! والمثير أن فكرة تورينغ هذه لا تزال أساس كل جهاز كمبيوتر تستخدمه اليوم، من هاتفك إلى الكمبيوتر الشخصي.


لكن تورينغ لم يتوقف عند هذا الحد. في عام 1950، نشر مقالًا طرح فيه سؤالًا كبيرًا: "هل يمكن للآلات أن تفكر؟" واقترح اختبارًا يُعرف الآن بـ"اختبار تورينغ". الفكرة بسيطة: إذا جلس إنسان للدردشة مع جهاز كمبيوتر ولم يستطع تمييز أنه آلة، فهذا يعني أن الآلة "ذكية". لم يكن هناك جهاز قادر على اجتياز هذا الاختبار وقتها، لكن السؤال نفسه أشعل شرارة الذكاء الاصطناعي.

الخمسينيات: ولادة مصطلح "الذكاء الاصطناعي"


بعد تورينغ، بدأ العلماء يحلمون بآلات تتجاوز الحسابات البسيطة. في صيف 1956، نظم جون مكارثي مؤتمرًا في كلية دارتموث، حيث استخدم مصطلح "الذكاء الاصطناعي" لأول مرة. كانوا متفائلين جدًا، حتى إنهم ظنوا أن الآلات ستفكر مثل البشر خلال عشر سنوات فقط، لكن الأمر استغرق وقتًا أطول بكثير!
في تلك الفترة، ظهرت برامج مبهرة. برنامج "Logic Theorist" استطاع إثبات نظريات رياضية بنفسه، كأن تعطيه مسألة ويقول لك "أنا أعرف الحل!". وكان هناك كمبيوتر لعب "الداما" ضد إنسان، لم يكن بطلًا، لكنه أثار دهشة الجميع بقدرته على التخطيط للحركات.

الستينيات والسبعينيات: خطوات أولى وصعوبات كبيرة


في الستينيات، بدأت الأمور تصبح أكثر إثارة. برنامج "ELIZA" الذي صممه جوزيف وايزنباوم، كان بمنزلة "طبيب نفسي رقمي" يحاكي نمط العلاج الروجيري. تكتب له "أنا متعب"، فيرد "لماذا تشعر بالتعب؟". كان بسيطًا ويعتمد على إعادة صياغة الأسئلة، لكنه أدهش الناس وجعل بعضهم يظنون أنه يفهمهم فعليًا! في نفس الوقت، كانت أفلام الخيال العلمي مثل 2001: A Space Odyssey تظهر كمبيوترات ذكية مثل HAL 9000، مما جعل الناس يتوقعون المزيد.
لكن الواقع كان أصعب. أجهزة الكمبيوتر كانت بطيئة، والأحلام كبيرة جدًا. حاولوا ترجمة اللغات، لكن النتائج كانت مضحكة أحيانًا، مثل ترجمة "الروح مستعدة لكن الجسد ضعيف" إلى "المشروب جاهز لكن اللحم فاسد"! هذه الفترة سُميت "شتاء الذكاء الاصطناعي" لأن التقدم توقف والحماس خفت.

الثمانينيات والتسعينيات: نهضة جديدة وانتصارات كبيرة


في الثمانينيات، عاد الذكاء الاصطناعي بقوة بفضل أجهزة أفضل. ظهرت "أنظمة الخبراء"، مثل "MYCIN" الذي طُوّر لمساعدة الأطباء في تشخيص الأمراض المعدية. ورغم أنه لم يُستخدم في الممارسة السريرية فعليًا لأسباب قانونية، فإنه مثّل نموذجًا رائدًا لتطبيق الذكاء الاصطناعي في الطب. الشركات بدأت تستخدم هذه الأنظمة أيضًا، مثل البنوك لتحليل طلبات القروض. وحتى ألعاب الفيديو مثل "The Last Starfighter" استلهمت فكرة الذكاء الاصطناعي لمحاكاة المعارك!
اللحظة الكبيرة جاءت في 1997، عندما هزم "Deep Blue" من IBM بطل الشطرنج غاري كاسباروف. كان يحسب ملايين الحركات في ثوانٍ، انتصار أظهر للعالم أن الآلات يمكنها التفوق على البشر في مهام معقدة.

الألفية الجديدة: ثورة التعلم الآلي والبيانات الكبيرة


في القرن الـ 21، تغير كل شيء بفضل "التعلم الآلي". بدلًا من برمجة كل خطوة، أعطينا الآلات بيانات ضخمة، مثل منشوراتك على تويتر أو بحثك على جوجل، وتركناها تتعلم. "Google Translate" تحسن كثيرًا بفضل هذا، و"Shazam" أصبح يتعرف على أغنيتك المفضلة في ثوانٍ.
في 2011، فاز "واتسون" من IBM في "Jeopardy!"، يفهم أسئلة معقدة ويرد بسرعة. وفي 2012، برنامج "AlexNet"، القائم على الشبكات العصبية العميقة، تمكن من التعرف على الصور بدقة مذهلة، كأن يميز بين قطة وكلب في آلاف الصور. كانت هذه خطوة حاسمة في تقدم الرؤية الحاسوبية، ومهدت الطريق للعديد من تطبيقات الذكاء الاصطناعي الحديثة.

اليوم في 2025: الذكاء الاصطناعي في حياتنا اليومية


الآن في 2025، الذكاء الاصطناعي موجود في كل مكان. "سيري" تشغل لك الموسيقى، و"Roomba" تنظف منزلك دون أن تصطدم بالأثاث. سيارات "تسلا" تقود نفسها، و"Deepfake" يصنع مقاطع مضحكة  أو مخيفة أحيانًا! نماذج مثل "ChatGPT" أو "Grok" من xAI، تتحدث معك كأصدقاء تقريبًا. لكن هناك تحديات: كيف تحمي خصوصيتك عندما تعرف الشركات كل شيء عنك؟

مستقبل الذكاء الاصطناعي بين التفاؤل والتحذير


من آلة تورينغ إلى اليوم، الذكاء الاصطناعي قطع شوطًا طويلًا. والآن، نحن نقف على مفترق طرق حاسم. من جهة، هناك سيناريو تفاؤلي: يمكن للذكاء الاصطناعي أن يعزز قدرات الإنسان، أن يساعد في ابتكار أدوية جديدة، ويقودنا إلى مجتمعات أكثر ذكاءً واستدامة. يمكنه أن يكون شريكًا للإنسان في حل أزمات كبيرة مثل التغير المناخي، والفقر، وحتى الكوارث الطبيعية.


ومن جهة أخرى، هناك سيناريو تحذيري إذا تُرك الذكاء الاصطناعي دون ضوابط أخلاقية وتشريعية واضحة، فقد يؤدي إلى تمييز خوارزمي، ومراقبة شاملة، أو حتى قرارات تُتخذ دون تدخل بشري في مجالات حساسة كالقضاء أو الأمن. السيناريو المظلم يشمل فقدان الوظائف، وتضخم الفجوة بين الدول المتقدمة والنامية، أو سيطرة عدد محدود من الشركات على المعرفة.


الرحلة مستمرة، وما زالت الأسئلة الكبرى مطروحة: من يتحكم في الذكاء؟ ومن يضمن أن يكون في خدمة الجميع؟

 

الذكاء الاصطناعي

إقرأ المزيد في: تكنولوجيا وأمن معلومات