مقالات

يتجاوز العدوان "الإسرائيلي" على سورية مجرد كونه امتدادًا لما سبقه من اعتداءات. كما يتجاوز في أبعاده ورسائله الجانب الأمني. فهو يشكل محطة تأسيسية مفصلية في بلورة مستقبل سورية وموقعها في المعادلة الإقليمية وصولًا إلى صياغة دورها الوظيفي الإقليمي الذي يخضع للتجاذب التركي "الإسرائيلي" في هذه المرحلة. ويُجسِّد هذا العدوان براعة العدو في استغلال المتغيرات "الجيوسياسية" الإقليمية والهشة في الساحة السورية، والذي كان له دور أساسي كما يتباهى بذلك نتنياهو في إنتاجه وبلورة معالمه وحدوده.
ما يجري من تطورات متسارعة هو حصيلة تفاعل للعديد من العوامل والمتغيرات. ويمكن تحديد طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول 2023، نقطة البدء في هذا المسار.
من أهم عناصر هذا المسار هو انطلاق ديناميات إقليمية وداخلية "إسرائيلية"، أدت إلى إنتاج عقيدة أمنية "إسرائيلية" تطاول كل بيئتها الإقليمية المباشر من الجهات كافة، بما فيها سورية ولبنان. ومن ضمن هذه التحولات السيطرة على مواقع جغرافية وبسط هيمنة أمنية تحول دون تطوير تهديدات تجاهها في المستقبل. وعلى أمل تحييد أي قوة يمكن أن تشكل سداً وقوة ردعًا ودفاعًا في مواجهة أي مخططات "إسرائيلية" مستقبلية.
ردَّ العدو على طوفان الأقصى بشن حرب تدميرية هائلة في كل من غزة ولبنان، أدت إلى نتائج عسكرية وتداعيات أسهمت، من منظور "إسرائيلي"، في توفير الظروف إلى جانب عوامل تركية وداخلية سورية في إسقاط النظام السوري السابق. أدى ذلك إلى خروج سورية من محور المقاومة وإحداث تغيير جذري في الشرق الأوسط وإنتاج سلطة جديدة، لم تترك فرصة لطمأنة "إسرائيل" إلا واتبعتها وذهبت بعيداً في إرضاء الغرب والولايات المتحدة.
هذا الواقع المستجد أنتج فرصًا فعلية ومخاطر محتملة تختلف في ماهيتها وحجمها عن المخاطر السابقة عندما كانت سورية لا تزال ضمن محور المقاومة.
في موازاة هذه المتغيرات وما انطوت عليه، اندفعت "إسرائيل" في إستراتيجية مدروسة، بدأت بتنفيذها منذ ما بعد سقوط النظام السابق. انتقلت فيها إلى مرحلة شن اعتداءات واسعة تحت شعار حماية الدروز، لكن أهدافها تتجاوز هذا الشعار، ويمكن تلخيصها وفق الآتي:
- تهدف "إسرائيل" من رفع هذا الشعار في العدوان على سورية، إلى تقديم نفسها كحامية للدروز من أجل عزلهم عن محيطهم العربي والإسلامي، وتعميق الهوة مع النسيج الاجتماعي الذي ينتمون إليه في هذا المشرق.
- تقديم نفسها كحامية للأقليات في مواجهة المخاطر التي تواجهها بفعل المتغيرات التي تعصف بالمنطقة وفي ظل سيطرة الجماعات الإرهابية على سورية. وتريد بذلك أيضاً التأسيس لسابقة الحماية بهدف ترويج هذا المفهوم على مستوى سورية والمنطقة.
- منع السلطة الجديدة في سورية من بسط سلطتها على الجنوب السوري. وإنتاج واقع أمني يلبي الطموحات "الإسرائيلية" في هذه المنطقة.
- التأسيس لواقع يمهد الطريق لتنفيذ أطماع توسعية في هذه المنطقة، والتي كانت على المهداف "الإسرائيلي" تاريخيًا.
- التمهيد لإنتاج كانتون درزي، كجزء من منظومة أمنية لها دوران حماية الحدود "الإسرائيلية"، وتشكل إحدى أوراقها في الساحة السورية.
- إبقاء سورية تحت دائرة الضغط لمنعها من النهوض والتحرك في الاتجاه المرسوم تركيًا ومن قبل الجولاني – الشرع.
- اختبار السقف التركي ومواقفه ووضع حد لاندفاعه في الساحة السورية على خلفية تضارب المصالح بين الطرفين.
في الختام، ما تشهده سورية في هذه المرحلة ينطوي على أبعاد إستراتيجية وتاريخية، ويؤسس لمعادلات إقليمية مغايرة كلياً لما كانت عليه. وهو لا يزال مفتوحًا على الكثير من المتغيرات والسقوف.