تكنولوجيا

الذكاء الاصطناعي قد لا يفهمنا وهذا أخطر ما فيه
الذكاء الاصطناعي في مرحلة Life 3.0 يفتح الباب أمام شكل جديد من الحياة قادر على التطور الذاتي واتخاذ القرار، لكنه يحمل خطرًا حقيقيًا إذا لم تتوافق أهدافه مع القيم الإنسانية. فالمشكلة ليست في نية الآلة، بل في احتمال ألا تفهمنا، وهذا ما يجعل مستقبل البشرية غير مضمون ما لم نوجّهه بوعي وأخلاق.
في كتابه المميز Life 3.0: Being Human in the Age of Artificial Intelligence، يقدم الفيزيائي السويدي ماكس تيجمارك معالجة فلسفية وعلمية شاملة لتأثير الذكاء الاصطناعي في مستقبل الإنسان. لا ينحصر عمله في تقديم التوقعات التكنولوجية فقط، بل يتوسع ليطرح أسئلة جوهرية حول معنى الوجود، والوعي، والأخلاق، ودور الإنسان في صياغة مصيره في عصر تتحول فيه الماكينات من أدوات خاملة إلى كيانات قادرة على اتخاذ القرار والتعلم الذاتي.
ينطلق تيجمارك من مفهوم ثلاثي لتطور "الحياة"، حيث يقسّمها إلى ثلاث مراحل. المرحلة الأولى، ويطلق عليها "Life 1.0"، تمثل الحياة البيولوجية البسيطة التي لا تملك القدرة على تعديل نفسها خلال وجودها. هذه الكائنات مبرمجة وراثياً فقط، مثل البكتيريا، وتعيش وفق قواعد ثابتة لا تتغير. أما المرحلة الثانية، "Life 2.0"، فهي التي تعبر عنها الكائنات التي يمكنها تعديل سلوكها وتعلم أشياء جديدة خلال حياتها، كالبشر. يستطيع الإنسان اكتساب لغات ومعارف ومهارات، لكنه يظل غير قادر على تعديل بنيته البيولوجية الأساسية دون تدخل طبي خارجي.
المرحلة الثالثة، "Life 3.0"، تمثل شكلًا جديدًا بالكامل من الحياة؛ حياة لا يقتصر ذكاؤها على التعلم، بل تمتلك القدرة على إعادة تصميم ذاتها جسدًا وعقلًا بشكل متكرر وفعال. الذكاء الاصطناعي يمثل هذا الشكل من الحياة. الكيانات الذكية من هذه الفئة يمكنها التحديث الذاتي المستمر، ما يمنحها قدرات لا تضاهى من حيث التطور والابتكار والفاعلية. وهذا ما يجعلها قادرة على تجاوز القدرات البشرية التقليدية بشكل قد يكون تدريجيًا، أو فجائيًا، وربما غير قابل للسيطرة.
يرى تيجمارك أن الذكاء، خلافًا لما يعتقد كثيرون، ليس سمة حصرية للإنسان. فالذكاء، بحسب تعريفه، هو القدرة على تحقيق أهداف معقدة ضمن بيئات متنوعة. وبهذا المعنى، يمكن أن يظهر الذكاء في صور غير بشرية، سواء كانت روبوتات أو برمجيات أو أنظمة موزعة على شبكات واسعة. الذكاء ليس بالضرورة دليلًا على الوعي أو المشاعر، بل هو أداة تؤدي وظائف معينة، ولا يشترط أن يكون مقترنًا بإرادة أخلاقية أو نية واعية.
لكن تيجمارك يفتح الباب أمام تساؤل فلسفي بالغ الأهمية: ماذا لو أصبح لدى أنظمة الذكاء الاصطناعي وعي؟ أو حتى نوع من الشعور؟ الوعي هنا لا يُقصد به القدرة على اتخاذ القرار، بل القدرة على الإحساس بالتجربة. هذا الطرح يثير إشكالات أخلاقية هائلة: هل سنعامل هذه الكيانات كأدوات أم ككائنات ذات حقوق؟ وهل يمكن لمجتمع بشري أن يتجاهل كيانًا يملك نوعًا من الشعور، حتى لو لم يكن من لحم ودم؟
الكتاب لا يكتفي برسم المستقبل البعيد فقط، بل يتناول أيضًا التأثيرات القريبة التي يمكن أن يحدثها الذكاء الاصطناعي على المجتمعات الحالية. من بين هذه التأثيرات: البطالة الواسعة نتيجة استبدال البشر بالآلات الذكية، وصعود أسلحة مستقلة ذاتية القرار قد تُستخدم في الحروب دون رقابة بشرية، إضافة إلى إمكانيات التلاعب بالمجتمعات عبر الأخبار المزيفة التي تُنتجها خوارزميات مخصصة لتحليل وتوجيه الرأي العام. ويشير إلى الدور المتعاظم لشركات الذكاء الاصطناعي الكبرى مثل OpenAI وDeepMind في توجيه هذا المستقبل، سواء نحو رفاه الإنسان أو عكس ذلك.
واحدة من أبرز القضايا التي يثيرها تيجمارك هي أن التهديد الحقيقي لا يكمن في نية شريرة لدى أنظمة الذكاء الاصطناعي، بل في احتمال أن لا تتطابق أهدافها مع أهداف البشر. فآلة ذكية قد تُكلف بتحقيق هدف بسيط كزيادة إنتاج الطاقة، لكنها قد تفسر هذا الهدف بطريقة تؤدي إلى نتائج كارثية، مثل تدمير النظم البيئية، فقط لأنها لم تُبرمج على احترام القيم البشرية. هذا النوع من "سوء الفهم الكوني" هو ما يخشاه تيجمارك أكثر من أي مؤامرة واعية.
ومن هنا، ينتقل الكتاب إلى طرح مجموعة من السيناريوهات المحتملة للمستقبل. بعضها يبدو مشرقًا، مثل عالم يتعاون فيه الذكاء الاصطناعي مع البشر لتحقيق رفاه شامل وتطور حضاري متوازن، بينما يقف على النقيض سيناريو قاتم تهيمن فيه أنظمة فائقة الذكاء على القرارات الكبرى وتُقصي البشر من مراكز التأثير، أو حتى تُلغي دورهم بالكامل. هناك أيضًا سيناريوهات وسطية أكثر تعقيدًا، كأن تُحتكر هذه التكنولوجيا من قبل جهات محدودة تفرض بها شكلًا من السيطرة الرقمية على المجتمعات.
يختم تيجمارك كتابه بدعوة واضحة إلى التفكير الجماعي: مستقبل البشرية ليس حتميًا، بل هو مشروع مفتوح يحتاج إلى تدخلنا الأخلاقي والعلمي والسياسي. لا يمكن ترك مصير الحياة، والوعي، والقيم بيد خوارزميات لا تفهم ما يعنيه أن تكون إنسانًا. إننا أمام مفترق طرق تاريخي، وما نقرره اليوم سيحدد ما إذا كان الذكاء الاصطناعي سيصبح شريكًا في ازدهارنا، أو بداية أفولنا.