نقاط على الحروف

من دون عودة في الزمان إلى الوراء كثيرًا، كشفت حرب تموز 2006 النقاب عن وجوه كثير من اللبنانيين، من السياسيين والإعلاميين والمثقفين، الذين كانت قلوبهم مع الجنوب وأهله وسيوفهم عليه وعلى أهله، ومنهم من كانت قلوبهم وسيوفهم معًا على مواطنيهم اللبنانيين.
ثم جاءت حرب إسناد غزة وفلسطين التزامًا بالواجب الشرعي والأخلاقي في التخفيف من المعاناة العظيمة التي كان يتعرض لها أهلها في غزة على يد مجرمي هذا العصر وأكثر مجرمي العالم إرهابًا على مر العصور. ومنذ بداية هذه الحرب من الجنوب اللبناني انكشف النقاب عن وجوه كثيرين من اللبنانيين، سياسيين وإعلاميين، بعدد أكبر من عام 2006 وبشكل أوضح وأكثر وقاحة، وكان هؤلاء يتناوبون على الشاشات و"الميكروفونات" وأصبحوا من المياومين على منصات التواصل الاجتماعي، مهملين أمورهم المعتادة، متفرغين للهجوم على حزب الله وبيئته، عوض إظهار بعض الدعم أو بعض الحزن على المجازر اليومية التي يتعرّض لها الفلسطينيون في غزة، والتي أثارت حتى غضب كثيرين في العالم من الذين هم في الأصل من أصدقاء وداعمي الكيان الصهيوني.
بعد حرب الإسناد بدأت المقاومة الإسلامية عملية أولي البأس ضد العدو "الإسرائيلي" ردًّا على اعتداءاته على الأراضي اللبنانية. وفيما كان لبنان كله منشغلًا بهذه المعركة والمجازر التي قام بها العدو في كثير من المناطق اللبنانية، والتدمير البربري للقرى والأحياء، وإيواء النازحين في المناطق البعيدة عن العدوان "الإسرائيلي"، كان عناصر الطابور الخامس "الإسرائيلي" في لبنان يتحركون سياسيًّا وإعلاميًّا ضد اللبنانيين عمومًا والمقاومة وبيئتها خصوصًا، مهاجمين المقاومة وقادتها ورجالها، متهمين حزب الله بأنه هو الذي دفع العدو "الإسرائيلي" إلى مهاجمة لبنان، فأظهر هؤلاء كيان الاحتلال حملًا وديعًا مجنيًّا عليه مضطرًّا للدفاع عن نفسه.
وتجاوز هؤلاء الوقحون حدود القيم الإنسانية، حين دعوا العدو إلى مواصلة عدوانه على اللبنانيين، وعدم وقف مجازره أو الانصياع إلى المناشدات الدولية بوجوب التوقف عن اعتداءاته ومجازره، والانسحاب من الأراضي الحدودية اللبنانية التي احتلها.
لقد كشف العدوان "الإسرائيلي" الأخير على لبنان الغطاء عن وجوه كثير من اللبنانيين الذين تولوا مهمة خدمة العدو في الحرب النفسية ضد اللبنانيين، وصار نصف اللبنانيين على الأقلّ "لا يشبهون" اللبنانيين الآخرين، كما كرر بعض سفهاء الإعلام اللبناني، ومعهم حق لكن من ناحية أخرى، فأنصار وبيئة المقاومة لا يشبهون اللبنانيين الآخرين الذين ارتضوا ذل الانصياع للسياسة الأميركية الداعمة للعدو "الإسرائيلي"، حتى وصل الأمر بهؤلاء إلى الطلب من جيش العدو،عدم تحذير اللبنانيين قبل قصف بعض المباني، فليمت هؤلاء في مبانيهم، فهم "لا يشبهوننا"، وحتى وصل الأمر ببعض هؤلاء إلى فتح حوارات مع أبواق العدو على وسائل التواصل وتبادل مشاعر "حب السلام" بينهم وبينه.
هذا الحب "للرفاق الإسرائيليين" وصل حتى إلى نواب الشعب اللبناني، ووجد العدو "الإسرائيلي" نوابًا يبررون له عدوانه على لبنان، كالنائب "القواتي" غسان حاصباني، الذي قال في لقاء معه: "لما يكون في مجموعات مسلحة والدولة مش قادرة تسيطر عليها، ودولة ثانية شافتها خطر وضربتها، هيدا منه إنتقاص من سيادة الدولة الحاضنة!".
طبعًا، ليس جديدًا على ميليشيا "القوات اللبنانية" النظر إلى كيان الاحتلال على أنه "دولة" كما سمّاها حاصباني، فالتاريخ يشهد على الصداقة الحميمة بينها وبين كيان العدوّ، فالغريب إذًا أن لا يطلق عليها "سعادته" اسم "الدولة"، لكن في كلام النائب حاصباني ما هو أبعد من الدفاع عن حق العدو في اعتدائه على لبنان واللبنانيين، فهو في دفاعه عن "حق" العدو "الإسرائيلي" بالاعتداء على "مجموعات مسلحة"، وليس على أراضٍ لبنانية، اعترف بحق المقاومة اللبنانية بالدفاع عن اللبنانيين، دون أن يلتفت إلى ذلك. فحين يقول النائب "القواتي" إن الدولة "مش قادرة تسيطر" على المجموعات المسلحة، فهذا يعني أن الدولة اللبنانية عاجزة أمام "مجموعة مسلحة" لبنانية، فكيف تكون مالكة للقدرة الدفاعية الكافية التي تمكنها من مواجهة عدو خارجي كالعدو "الإسرائيلي"؟ وحين تكون عاجزة عن مواجهة العدو، فهي توجد فراغًا يُتطلب ملؤه بجهة قادرة على ممارسة الدفاع، أي المقاومة.
وحين يقول هذا النائب إن "إسرائيل" لها "الحق" في الضرب حين تغيب الدولة اللبنانية، فهو يعترف -من دون قصد- بأن ردع المقاومة هو الذي يمنع العدوان "الإسرائيلي"، وبالتالي فإن سلاح حزب الله لا يُنتج فوضى كما يُزعم، بل يملأ فراغًا ردعيًا يمنع "إسرائيل" من ممارسة اعتداءاتها المعهودة.
وإذا كانت "إسرائيل" تعتدي على لبنان عند غياب الدولة، فمن يردّ عليها حين تعتدي؟
الجواب بكل بساطة: المقاومة، بما أنها الجهة الوحيدة القادرة فعليًا على الدفاع والردع. فواقع الحال إذاً يُعطي المقاومة مشروعية لا تُستمدّ فقط من الحق المنصوص عليه في الشرائع الدولية، وهو حق مقاومة الاحتلال، إنما أيضًا من الواقع اللبناني الداخلي.
في الختام يرد في البال السؤال المعهود الذي نعرف جوابه مسبقًا: أين القضاء اللبناني؟ ولماذا لا يتدخل لمعاقبة كل هؤلاء المتوددين والمبررين للعدو "الإسرائيلي" إجرامه؟.