مقالات

تحمل الذكرى السنوية لتحرير جنوب لبنان في مايو/أيار عام 2000 دلالات عميقة، تتجاوز حدود تحرير توازي نصف مساحة الجنوب اللبناني أو يزيد، على أهميتها القصوى. فالتحرير يمثل تتويجاً لمسار طويل من الصمود والمقاومة التراكمية، ونقطة تحول إستراتيجية أدت إلى إنتاج معادلات قوة مختلفة، وأسست لخيارات إستراتيجية وعملياتية بديلة عما كان سائداً وأدى إلى هزائم متوالية. ولذلك تركت بصماتها واضحة على المعادلات السياسية والأمنية في لبنان وإسرائيل وعلى معادلات الصراع العربي الإسرائيلي.
بعد مضي أكثر من ثلاثة عقود على تجربة مقاومة التسعينيات وعلى ربع قرن على التحرير، أصبحت استعادتها، دلالاتها، ورسائلها، ومعادلاتها أكثر إلحاحاً، وتحديداً في ظل ما تواجهه المقاومة من تحديات جديدة.
لم يكن تحرير العام 2000 حدثًا مفصولًا عن المسارات التي أدت إليه، وتقاطع عوامل متعددة أنتجت الظرف الملائم لتحققه. في صدارتها تصاعد عمليات المقاومة وتطورها النوعي. فقد شهدت المقاومة تطوراً نوعياً انتقلت بموجبه إلى شن حرب عصابات متطورة ومنهكة للاحتلال.
لم تقتصر فعالية المقاومة على الجانب العسكري المباشر، بل امتدت لتشمل حرب استنزاف مستمرة للاحتلال. شكلت إلى جانب الخسائر البشرية ضغطاً نفسياً ومادياً هائلاً على الجيش الإسرائيلي وعلى مستوطنات الشمال. وارتفعت تكلفة هذا المسار المتواصل والتصاعدي عبئاً متراكمًا على المجتمع الإسرائيلي، ووصلت إلى حالة من الإرهاق والتشكيك في جدوى استمرار الاحتلال لدى صانعي القرار في تل أبيب.
بالتوازي مع العمل العسكري، أدارت المقاومة حرباً نفسية بارعة، نجحت من خلالها في نقل المعركة إلى داخل المجتمع الإسرائيلي. وأسهمت صور العمليات والخسائر المستمرة في صفوف الجنود الإسرائيليين، إلى جانب الخطاب السياسي المدوي لسماحة الامين العام الشهيد السيد حسن نصر الله في حينه، في تحويل قضية احتلال جنوب لبنان إلى عبء داخلي متزايد. نتيجة ذلك لم تعد المقاومة مجرد تحدٍّ خارجي يواجهه جيش العدو ويديره بأقل المخاطر والخسائر، وإنما تحولت إلى قضية رأي عام داخلي وإلى سِجال مجتمعي فرض نفسه على القيادة السياسية التي خلصت في نهاية المطاف إلى قرار الاندحار.
عامل آخر حاسم، وهو الانهيار التدريجي لـ"جيش لبنان الجنوبي"، بفعل عمليات المقاومة المستمرة التي أدت إلى إضعافه بشكل كبير وانهيار معنوياته تدريجياً، وصولاً إلى انهياره الكامل والسريع الأمر الذي فرض على قيادة العدو أحد خيارين، إما الانسحاب السريع أو ملء الفراغ الذي نتج عن انهياره. ويعني الخيار الثاني مزيدًا من الخسائر في صفوف جيش العدو التي كان يتلقاها العملاء نيابة عنه.
كان قرار حكومة العدو بالانسحاب من لبنان في مايو 2000 نتيجة مباشرة لتراكم تأثير هذه العوامل، واستناداً إلى تقدير متعدد الأوجه مفاده أن استمرار الاحتلال أصبح مكلفًا، ولم يعد يحقق الأهداف المرجوة منه. ومستندًا إلى قناعة تبلورت لدى القيادة السياسية بغياب أي أفق سياسي أو أمني لاستمرار الاحتلال. إذ لم تنجح إسرائيل في القضاء على المقاومة أو إنتاج معادلة ردع تحمي جنودها وشمالها، فتحول جنوب لبنان إلى جبهة استنزاف للجيش الإسرائيلي، مما أثر في معنويات الجنود واستعدادهم القتالي العام.
تآكل الدعم الشعبي في إسرائيل كان عاملاً حاسماً آخر. حيث تزايدت الأصوات المطالبة بالانسحاب، وبرزت حركات احتجاجية مؤثرة مثل حركة "الأمهات الأربع" التي سلطت الضوء على الثمن البشري للاحتلال. وأصبح الانسحاب مطلباً شعبياً واسعاً، استجاب له إيهود باراك في حملته الانتخابية، مما شكل التزاماً سياسياً قوياً دفع باتجاه تنفيذ الانسحاب بعد توليه رئاسة الوزراء عام 1999.
باختصار، كان قرار الانسحاب الإسرائيلي نتيجة تقدير شامل بأن تكاليف الاحتلال أصبحت باهظة وتفوق أي فوائد متصورة، وأن الاستمرار فيه لا يحقق أهدافاً إستراتيجية واضحة، بل يزيد من استنزاف إسرائيل بشرياً ومادياً ويؤثر سلباً في جبهتها الداخلية.
ولم يتبلور هذا الفهم لدى قيادة العدو، إلا بعدما فشلت خيارات عملياتية لردع المقاومة وإحباطها أو جعلها محدودة التأثير. وبعدما نجحت المقاومة أيضاً في تحويل الاحتلال إلى عبء على شمال فلسطين أيضًا، بفعل معادلة الردع التي اتبعها حزب الله عبر استهداف المستوطنات بالصواريخ ردًا على تجاوز خطوط حمراء حددها وفق اعتبارات محددة. وبفعل صمود المقاومة وتصميمها في مقابل الحملات التي تعرضت لها.
في الخلاصة، شكل تحرير جنوب لبنان في مايو/أيار عام 2000 نقطة تحول إستراتيجية مهمة على الصعيدين اللبناني والإقليمي، وحمل في طياته نتائج بعيدة المدى لا تزال أصداؤها حاضرة حتى اليوم. إذ برز حزب الله كقوة لبنانية رئيسية نجحت في دحر الاحتلال الإسرائيلي، مما أكسبه شرعية شعبية وسياسية واسعة، وعزز من دوره كفاعل أساسي في المعادلة اللبنانية. وأسس بذلك لقوة ردع شكلت جزءاً من معادلات الصراع اللاحقة. نتيجة ذلك تمكنت الدولة من بسط سيادتها على الأراضي المحررة.
إسرائيليا، انكسرت هيبة "الجيش الذي لا يقهر" نتيجة أول هزيمة حقيقية لإسرائيل كونها انسحبت تحت ضربات المقاومة من أرض عربية من دون أثمان سياسية أو أمنية. وكان لهذا الأمر تأثير نفسي ومعنوي كبير داخل إسرائيل. والأهم أن هذا التحرير باعتباره نتاج لحركة المقاومة، شكل تغييرًا ً في معادلة الصراع مع العدو الإسرائيلي، بعدما نجحت المقاومة في تقديم بديل لتحرير الأرض، بديل عن سياسة الخضوع للإملاءات الأميركية، دون انتظار إستراتيجية عربية مشتركة وتحقيق توازن إستراتيجي. ولذلك ألهم هذا الانتصار حركات مقاومة أخرى في المنطقة، خصوصاً في فلسطين حيث اندلعت الانتفاضة الثانية بعد أشهر قليلة من التحرير.