مقالات

تشهد الأيام الحالية مرحلة من التفاوض الأميركي- الصيني، في محاولة من البلدين، للوصول إلى تسوية تجارية تشمل قضية الرسوم الجمركية التي عادت إلى الواجهة بقوة، منذ إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب في نيسان المنصرم إجراءات بلاده الجديدة في فرض رسوم جمركية على لائحة طويلة من الدول، وفي مقدمتها الصين التي بادلت الولايات المتحدة الموقف، فعمدت إلى رفع الرسوم الجمركية من جهتها، أيضًا.
في قراءة تحليلية لتداعيات قرارات التعريفات الجمركية الأميركية، تُظهر الدراسة التي نشرها المركز الاستشاري للأبحاث والتوثيق، في أيار الحالي تحت عنوان " من "سموت – هولي" إلى "تعريفات ترامب"، انعكاسات إجراءات الحماية الأميركية، المحلية والدولية، وفي زاوية منها، تتناول الدراسة الشق المتعلق بالعملاق الصيني تحديدًا، وارتباطه بهذه التداعيات.
لم تكن الصين "ندًّا" حديث العهد للولايات المتحدة الاميركية، ففي سياق الحديث عن تاريخ الحمايات الجمركية، برزت الصين منذ العام 2001 قوةً اقتصادية وازنة، مع انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية وانخراطها، بشكل أعمق في الاقتصاد العالمي. هذا الأمر أدى إلى ارتفاع صادرات الصين، بشكل ملحوظ، إلى الولايات المتحدة الأميركية والأسواق العالمية، لا سيما بعد النمو الهائل في الإنتاجية المحلية، وهذا ما عُرف باسم "صدمة الصين."
تشير الإحصاءات التي نشرتها الدراسة أن نسبة الصادرات الصينية للولايات المتحدة الأميركية ارتفعت من 7.9% في العام 1999، ووصلت إلى 21.1% في العام 2018. وهذه "الصدمة" الصينية كان لها بالطبع تداعياتها السلبية الكثيرة والطويلة الأمد في مناطق محددة من سوق العمل في أميركا؛ حيث برز انخفاض كبير ومستمر في العمالة الصناعية، بالإضافة إلى بطء في عملية التكيّف وانخفاض المشاركة في القوى العاملة، فضلًا عن انخفاض الأجور وتراكم الآثار السلبية، وإعادة توزيع الوظائف على نحو غير متكافىء.
من ناحية أخرى؛ وفي ضوء هذه الوقائع، قامت أميركا فعليًا في العام 2018 بفرض رسوم جمركية على الصين، واستمر التصعيد الأميركي الذي انتهى بتوقيع "اتفاق المرحلة الأولى" في يناير/كانون الثاني في العام 2020، خلال ولاية الرئيس دونالد ترامب الأولى، حين تضمّن التزامات شراء صينيّة لم تتحقق بشكل كبير، وقد استكمل الرئيس الأميركي السابق جو بايدن توسيع الإجراءات لتشمل قطاعات استراتيجية؛ مثل التكنولوجيا والمعادن النادرة.
في سياق متصل؛ من الأهمية بمكان التعرّف إلى واقع التجارة القائمة بين البلدين. وتشير الإحصاءات أن القيمة الإجمالية لتجارة السلع بين أكبر اقتصادين عالميين قد بلغت، في العام 2024، ما قيمته 585 مليار دولار، منها 440 مليار دولار قيمة الصادرات الصينية إلى أميركا، و145 مليار دولار قيمة الصادرات الأميركية الى الصين، ما يعني أن أميركا هي أمام عجز تجاري مع الصين بلغت قيمته 295 مليار دولار، أي ما يوازي 1% من حجم الاقتصاد الأميركي.
في المقابل وعلى صعيد تجارة الخدمات، ارتفعت واردات الصين من الخدمات الأميركية بأكثر من عشرة أضعاف لتصل إلى 55 مليار دولار، في العام 2024، على مدى العقدين الماضيين، وفقًا لتقديرات "شركة نومورا"، ما دفع فائض تجارة الخدمات الأميركية مع الصين إلى 32 مليار دولار في العام الماضي.
كذلك وفقًا لــ"شركة نومورا"، هيمن السفر على الخدمات الأميركية المقدمة إلى الصين، ما يعكس إنفاق ملايين السياح الصينيين في الولايات المتحدة. هذا؛ وضمن قطاع السفر، يتصدر الإنفاق المتعلق بالتعليم نسبة 71 %، بحسب تقديراتها، ويأتي معظمه من الرسوم الدراسية ونفقات المعيشة لأكثر من 270 ألف طالب صيني يدرسون في الولايات المتحدة.
صحيح أن الرئيس الأميركي لم يجمّد مفعول القرار المفروض على الصين، على مدى تسعين يومًا، إسوةً بباقي الدول، لكنه أصدر لاحقًا قرارًا يقضي بإعفاء عشرين فئة من المنتجات من مفاعيل الإجراءات الجمركية، من بينها ثلاث فئات تندرج تحت أنواع السلع الأساسية التي تصدّرها الصين إلى الولايات المتحدة الأميركية (خمسة أنواع أساسية من السلع)، تشمل الهواتف الذكية والحواسيب المحمولة والبطاريات المستخدمة في السيارات الكهربائية وألعاب الأطفال ومعدات الاتصالات، ما يعني إعفاء ثلث الصادرات الصينية من الرسوم الجمركية.
رجل البيت الأبيض؛ كان قد أعفى ثلاث فئات من السلع الصينية المصدّرة الى الولايات المتحدة الأميركية من قرار الرسوم الجمركية الأخير (ثلاث من أصل خمس سلع أساسية) مسوّغًا ذلك بمنح فرصة للشركات الأميركية التي تصنّع في الخارج لتنقل عملياتها إلى الولايات المتحدة الأميركية. ولكن في المقابل، هذه الإعفاءات الجمركية جعلت الشركات التكنولوجية الأميركية "تتنفس الصعداء"؛ لأنّ معظمها يصنّع جزءًا من منتجاته خارج أميركا، ولا سيما في الصين، على سبيل المثال لا الحصر، هناك 90% من هواتف "الآيفون" تأتي من الصين.
بين الضغط الأميركي والتحدّي الصيني، وأمام هذا الواقع والمستجدات التي شهدها تاريخ البلدين من المواجهات الاقتصادية، بات من الواضح أن الحرب التجارية القائمة بين الدولتين لا تميل كفّتها بشكل مطلق لمصلحة دولة على حساب أخرى، فلكل منها أوراقها الرابحة والخاسرة. والشاهد في هذا الأمر هو مضيّ الدولتين حاليًا في مسار المفاوضات، في محاولة للوصول إلى تسوية اقتصادية ترضي الطرفين، مع أن معالمها النهائية لمّا تتضح بعد.