خاص العهد
"للحسين (ع) الذي نادى يوم العاشر من المحرم سنة 61 للهجرة (....) ذلك النداء الذي يتردّد صداه في الأذان والعقول والقلوب والأرواح والأنفس إلى يوم القيامة، هل من ناصر ينصرني؟ هل من معين يُعينني؟ دائمًا وأبدًا، لبيك يا حسين"..
تلك كانت الكلمات الأخيرة التي قالها سيد شهداء الأمة السيد الشهيد حسن نصر الله في يوم العاشر من محرّم العام الماضي، فكان نِعم من لبّى ونصر جدّه الإمام الحسين (ع). كانت آخر خطبة عاشورائية يتوجّه فيها لأشرف الناس، وهم الذين كانوا ينتظرون الليالي العاشورائية لينهلوا من ثقافته ومقاربته للسيرة الحسينية العطرة. يعزّ على كثيرين أن لا يطلّ سماحة السيد هذا العام، بعضهم لا يريد أن يُفكّر بالموضوع حتّى. منذ الأيام الأولى لشهادة السيّد، استحضر الناس محرّم الآتي بلا سيّد. قالوا في رحابه الكثير... الألم الكبير سيتّسع في عاشوراء القادم. المنبر الحسيني سيفتقد لخطابات الليالي الحزينة، يوم العاشر سيكون بلا ناعيه المعتاد.. إلا أنّ عزاء هؤلاء بأنّ الله عوّض المسيرة بشيخ جليل، عوّضهم بالأمين العام لحزب الله سماحة الشيخ نعيم قاسم كي ينهلوا من معين خطاباته..
وعلى مدى عقود من الزمن، لم تكن المحطة العاشورائية بالنسبة لسماحة السيد محطة أساسية فحسب، بل كانت جوهر المشروع المقاوم. وعليه، يروي عارفوه كيف كان يتابع أدقّ التفاصيل من الإعداد التنظيمي إلى المحتوى الفكري. بدقّة متناهية وحرص كبير، كان سماحة السيد الشهيد يتابع كل تفاصيل شهر محرّم الحرام من ألفها إلى يائها. قارئ المجلس العاشورائي المركزي الشيخ علي سليم يروي لموقع "العهد" الإخباري كواليس متابعة سماحة السيد للمجالس العاشورائية بدقة وإتقان.
يستهل الشيخ سليم حديثه بالإشارة إلى أنّ "سماحة السيّد، قدّس الله سرّه، كان حسينيّ الفكر والمنهج والمواقف والجهاد والروحيّة". وكما عبّر آية الله العظمى الإمام السيد علي الخامنئي (دام ظلّه الوارف) بأنّ "العزاء على سماحته من سنخ العزاء على أبي عبد الله الحسين (ع). يُشدّد الشيخ سليم على أنّ "فراقه يؤلمنا كثيرًا، لكن في الوقت نفسه نستمدّ من روحه، من نهجه، من فكره ومواقفه معنوياتٍ عاليةً، وقوّةً، وعزيمة".
أمّا في ما يخصّ المجالس العاشورائيّة، فبحسب تجربتي المتواضعة، يقول الشيخ سليم "ومنذ انطلاقة المجلس المركزي الذي كان يرعاه سماحته وشروعي بالقراءة في المجلس المركزي عام 1993، كان سماحة السيد الشهيد شديد الحرص على تقديم المجلس الحسيني بأسلوب حضاريّ وفكريّ راقٍ، من حيث المضمون، والشكل، والأسلوب. وكان يرى من المهمّ جدًّا أن نُقدِّم المجلس الحسيني، سواء في الأسلوب العزائي أو الشعر أو النعي أو السيرة الحسينية التي تُبكي، بأسلوبٍ جميلٍ، مؤثّر، وجاذب، بعيدًا عن الأساليب المنفِّرة، أو التي قد تتضمّن "خرافات" أو مبالغات أو إساءات لمقام أهل البيت (ع) أو لقدسية هذه القضيّة".
ويتابع الشيخ سليم :"من ناحية أخرى، كان سماحته حريصًا على الاهتمام بمصادر السيرة الحسينيّة، وأن تكون المجالس مستقاة من مصادر معتبرة وموثوقة يعتمد عليها المحقّقون والباحثون في مجالَي التاريخ والسيرة. وفي الفترة الأخيرة، شدّد سماحة السيّد على اعتماد كتاب "الصحيح من مقتل سيّد الشهداء (عليه السلام)" للمرحوم الشيخ محمّد الريشهري، وقد أصبح هذا الكتاب في متناول الجميع. وأنا شخصيًّا من الذين اهتمّوا بمراجعته والاعتماد عليه، منذ أن دعا سماحة السيّد إلى اعتماده".
أما سيرة يوم العاشر، أي المجلس الحسيني الذي يُطلق عليه عادةً بـ"المصرع"، فقد أولاها السيّد الشهيد عناية خاصّة. يُشدّد المتحدّث على أنّ سيد شهداء الأمة كان يدعو لقراءة السيرة الحسينيّة كاملة صبيحة يوم العاشر، وهذا ما تستغرق قراءته عادةً أكثر من ساعتين. وكان سماحة السيّد يُصرّ على هذا الأمر، لا كما يفعل بعضهم من اختصار أو إيجاز. وكان يؤكّد على ضرورة قراءة جميع أحداث صباح يوم عاشوراء، وخطب الإمام الحسين (عليه السلام) بالتفصيل، ثم المبارزات التي حصلت بين أنصار الإمام وأعدائه، وسائر التفاصيل، إلى أن نصل إلى استشهاد أهل بيت الإمام الحسين (ع).
وفي ليلة العاشر من العام الماضي، بعد انتهاء المجلس في باحة عاشوراء، قيل لي، إن سماحة السيّد يريد التحدث إليّ عبر الخط الداخلي. دخلت الغرفة حيث الهاتف، فكلّمني سماحته، وقال لي، بخصوص المصرع في اليوم التالي: "أُوصيك عندما تصل إلى فقرة استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام)، بأن تُعطي المصيبة حقّها من حيث الأثر العاطفي، وأن تعرضها بطريقة مؤثّرة، بحيث تبقى الناس في حالة تفاعل وجداني، دون التطرُّق إلى بعض المحطات الباردة التي قد تحدث ضعفًا في التأثير يقطع البكاء أو يشتّت الانتباه ". كان لديه هذه التوصية، أنه عندما نعرض بروز الإمام الحسين (ع) ومصيبته أن تكون بحرارة كاملة وبطريقة مؤثرة جدًا، حتى تبقى الناس على تفاعل معها لآخرها.
أما الكتاب الذي نقرأ فيه السيرة الحسينية يوم العاشر فهو "المصيبة الراتبة"، من إصدار جمعيّة المعارف الثقافيّة الإسلاميّة. في العام الماضي، طلب سماحة السيّد مراجعة هذا الكتاب، وقدّم عدّة ملاحظات عليه، بعضها بخط يده على النسخة القديمة، وبعضها أبلغني بها شفهيًّا، وبعضها نقله إلى الإخوة المعنيين بالشأن الثقافي. جُمعت هذه الملاحظات، وأُخذت بعين الاعتبار في النسخة الأخيرة التي عُرضت على سماحته، فراجعها وأقرّها، واعتمدت في الإصدار الأخير العام الماضي، وإن شاء الله تبقى هي المعتمدة.
كان السيّد يعقد لقاءات عامّة مع الخطباء والقراء سنويًا قبل بدء شهر محرّم، لكنّه قبل عام 2000، كان يُخصّص لي موعدًا نجلس فيه معًا، ويعطيني التوصيات اللازمة بخصوص المجالس، يضيف الشيخ سليم. كان يسألني: "ماذا حضّرت؟ وماذا ستتحدّث في هذه الليلة أو تلك؟" وكان يولي أهميّة كبرى للسياسات والضوابط، خاصّةً في المجلس المركزي، وكان يُبدي تشدّدًا أكبر فيها مقارنةً بالمجالس غير المنقولة عبر وسائل الإعلام.
يُشير الشيخ سليم إلى أنّ السيد الشهيد لطالما كان حريصًا على مشاعر مختلف الطوائف، يحترمها ويراعيها، ويُداريها. يقول :"كان شديد الدقّة، إلى درجة أنني أحيانًا وأنا على المنبر، إذا أردت ذكر مقطع من السيرة، يُرسل لي ورقة كُتب عليها: "انتبه عند هذا المقطع". كان يملك استشرافًا دقيقًا. على سبيل المثال، في أول ليلة تحدّثت فيها عن مصيبة السيّدة الزهراء (عليها السلام) ووداعها لأولادها، نبّهني إلى أن لا يكون في الطرح ما قد يُستفزّ منه الآخرون، وقال لي بوضوح: "انتبه عند هذا المقطع"".
لدى سؤاله على المستوى الشخصي فهو سيُحيي أول محرّم بلا السيّد، يتحدث الشيخ سليم بصوتٍ تخنقه العبرة، يسكت قليلًا ويُكمل: "إنّا لله وإنّا إليه راجعون"، ما كنت أتمنّى أن يأتي هذا اليوم… كنت أتمنّى أن يرزقني الله الشهادة بين يديه، وأن يجعلني فداءً له، لكن سبحان الله، الله رزقه الشهادة قبلنا. نسأل الله أن يثبّتنا لنستمر في حمل اللواء وتنفيذ وصاياه. فراقه صعبٌ، والغصّة كبيرة في قلوبنا، لكننا لن نتراجع؛ لأنه هو من أوصانا بأن نحمل دمه ورايته، ونتمسّك بمبادئه ونُكمل الطريق".
يُسهب الشيخ سليم في الحديث عن شخصية السيد حسن، فيقول :"سيدنا الشهيد اقتدى بجَدّه الإمام الحسين (ع)، فهو كان حسين هذه المرحلة في مواقفه، وجهاده، وصلابته، وتضحياته، وفدائه. بعد استشهاد كل أولئك القادة الذين كان السيّد متعلّقًا بهم، وتأثّر كثيرًا بفقدهم، اختاره الله تعالى ليختم تلك الشهادات بشهادته العظيمة. أعتقد أنّ مقاومتنا قدّمت نموذجًا كربلائيًّا معاصرًا، من خلال سيد شهداء الأمة، والسيّد الهاشمي، والقادة المجاهدين، ومنهم الشيخ الشهيد نبيل قاووق، كنموذج حيّ متكامل بكل أبعاده: من القائد إلى حامل الراية، إلى الشباب، إلى الشيوخ، وحتى الأطفال".
وفي ختام حديثه، يدعو الشيخ سليم الله أن يُطيل بعمر سماحة الأمين العام الشيخ نعيم قاسم، ويُسدّده ويؤيّده ويحفظه بعينه التي لا تنام، وأن يحفظ قائدنا آية الله العظمى الإمام السيد علي الخامنئي، حامل اللواء في هذا الزمان، هذا القائد الشجاع الحكيم المقدام الذي استطاع أن يُحطّم رأس الاستكبار في المعركة الأخيرة التي خاضها أعداؤنا ضدّنا وضدّ الجمهورية الإسلامية الإيرانية. كما يدعو الشيخ سليم لحفظ قيادة المقاومة جميعًا، وأن يُثبّت أقدام المجاهدين، فطالما أن المقاومة تحمل فكر الإمام الحسين (ع)، وعزّته وإبائه، وتُردّد "هيهات منّا الذلّة" و"ما تركتك يا حسين"، فإنها ستبقى، بإذن الله، مستمرّة حتى ظهور الإمام المهدي (عج).