مقالات

القرار الحكومي الأخير بنزع سلاح المقاومة لا يمكن اعتباره مجرد خطوة إدارية أو استجابة تقنية لضغوط خارجية، بل هو تحوّل نوعي في بنية الأمن الوطني اللبناني وفي تموضع لبنان داخل المعادلات الإقليمية. هذا القرار، الذي يأتي في سياق مطالب أميركية ملحّة، بما يلبي الأولويات "الإسرائيلية" في الساحة اللبنانية، يفتح الباب أمام سلسلة من المخاطر المركبة التي تهدّد الكيان اللبناني من أساسه.
في البعد الإستراتيجي، يمثل هذا المسار محاولة لتفكيك المعادلة الدفاعية التي قامت لعقود على توازن دقيق بين الجيش والشعب والمقاومة، وهي معادلة أثبتت قدرتها على ردع الاعتداءات لمدة 17 عاما، ومنع انكشاف لبنان الكامل أمام الأطماع "الإسرائيلية". إلغاء هذا التوازن من دون توفير بديل دفاعي متماسك، يعني ببساطة الانتقال من “استقرار مع ردع” إلى “وطن بلا حماية”، ما يشجع العدوّ على خطوات تُجسد أطماعه التاريخية.
داخليًا، يضع القرار الجيش اللبناني أمام معضلة كبرى: إما الالتزام بتنفيذه بما قد يزج المؤسسة في مواجهة مع شريحة واسعة من المواطنين، أو الامتناع عن ذلك بما يفتح باب التشكيك في التزامه بالقرار السياسي. هذا المأزق كفيل بتسييس الجيش وضرب صورته كمؤسسة إجماع وطني، فيما يدفع الشارع إلى انقسام حاد بين مؤيد ومعارض، على أسس سياسية وطائفية، ما يهدّد بإعادة إنتاج أجواء الحرب الأهلية.
إقليميًا، يتقاطع هذا التحول مع لحظة شديدة الحساسية يتم فيها إعادة رسم خارطة المنطقة مفتوحة على سيناريوهات عديدة. في مثل هذا السياق، فإن حرمان لبنان من قدرته الردعية لا يخدم سوى توسيع هامش المناورة "الإسرائيلي"، وجعل الساحة اللبنانية أكثر استباحة.
الأخطر أن "إسرائيل" تحقق من خلال هذا السيناريو ما تطمح إليه من إغراق الداخل اللبناني في صراع دموي واستنزاف متبادل، وتعميق الانقسام حول سلاح المقاومة، وتحويل الجيش إلى طرف في المواجهة، كلها أدوات يمكن أن تؤدي إلى انهيار البنية الدفاعية والاجتماعية معًا. عندها تجد "إسرائيل" نفسها أمام فرصة إستراتيجية تاريخية ليس نتيجة تغيير معادلات على الحدود وإنما من قلب لبنان نفسه.
أمام هذا الواقع، يجد حزب الله نفسه أمام لحظة حاسمة: التمسك بخطوط الردع التي بناها، مع تجنب الانجرار إلى مواجهة داخلية، والسعي لطرح بديل يقوم على إستراتيجية دفاع وطني مشتركة تحفظ الوظيفة الردعية للسلاح ضمن إطار الدولة. في المقابل، يتحمل الجيش مسؤولية تاريخية في حماية حياده الداخلي والتمسك بدوره كضابط إيقاع أمني، لا كأداة لتفكيك توازن قائم.
السيناريوهات أمام لبنان متعددة: استمرار الضغوط دون تنفيذ مباشر، أو تطبيق تدريجي مقنع عبر حصار اقتصادي وإعلامي، أو انفجار داخلي بالوكالة، أو - وهو الخيار الأجدى - إطلاق حوار وطني يقود إلى عقد دفاعي يحدد العدو، ويضع قواعد اشتباك واضحة، ويحدد موقع المقاومة في إستراتيجية الدفاع عن الوطن، بموازاة تسليح الجيش وتمويله، ويؤمن آلية تنسيق بين مكونات القوّة الوطنية.
الخطر إذًا ليس على المقاومة وحدها، بل على لبنان ككل. فالمسألة الحقيقية هي نزع قوة الردع والدفاع قبل بناء بديل فعّال، وهو ما قد يحوّل لبنان إلى ساحة مكشوفة تديرها القوى الخارجية وتستنزفها الانقسامات الداخلية. الخيار المتاح أمام اللبنانيين اليوم واضح: إما أن يبقى لبنان سيدًا يمتلك عناصر قوته، أو يتحول إلى كيان تابع لا مكان له في خريطة المنطقة إلا بقدر ما يخدم أمن الآخرين.