تكنولوجيا
تشهد العلاقات بين الولايات المتحدة والصين فصلًا جديدًا من فصول التنافس العالمي، لكن هذه المرة في ساحة الذكاء الاصطناعي، حيث تتسابق القوتان العظميان للسيطرة على التكنولوجيا التي يصفها الخبراء بأنها "السلاح الحاسم في معارك القرن الحادي والعشرين".
وبحسب تقرير موسّع نشرته صحيفة "وول ستريت جورنال"، فإن هذا الصراع لا يقتصر على الابتكار العلمي فحسب، بل يمتد إلى إعادة تشكيل موازين القوة الاقتصادية والعسكرية عالميًا، في مشهد يعيد إلى الأذهان ملامح الحرب الباردة، ولكن بأدوات رقمية وخوارزميات بدلاً من الصواريخ والدبابات.
صحوة صينية متأخرة
لسنوات، هيمنت شركات أميركية كبرى مثل "أوبن إيه آي" وغوغل على مضمار الذكاء الاصطناعي، خاصة في مجال الذكاء التوليدي الذي يُعدّ التقنية الأهم في العقود المقبلة. لكن بحلول عام 2024، أدركت بكين تأخرها الواضح في هذا الميدان، بعدما اعتمدت شركاتها على نماذج مفتوحة المصدر مثل Llama التابعة لـ"ميتا"، في وقت كانت القيود الأميركية على تصدير الشرائح المتقدمة تعيق تدريب النماذج الصينية الكبرى.
أمام هذا الواقع، أطلقت القيادة الصينية حملة وطنية ضخمة شملت تخفيف القيود البيروقراطية وتقديم حوافز مالية هائلة، إلى جانب بناء مراكز حوسبة عملاقة في مناطق مثل منغوليا الداخلية التي تمتاز بتكلفة طاقة منخفضة ومصادر متجددة.
صعود "ديب سيك".. لحظة الفخر الصيني
بعد تسعة أشهر من التعبئة، برز اسم شركة "ديب سيك" (DeepSeek) التي أسسها ليانغ وينفنغ، بعد تطويرها نموذج ذكاء اصطناعي متقدم استطاع منافسة منتجات "أوبن إيه آي" بكلفة أقل.
هذا الإنجاز اعتبره رئيس الوزراء الصيني لي تشيانغ "لحظة تفخر بها الصين"، ما فتح الباب أمام موجة تعبئة وطنية جديدة في قطاع التكنولوجيا، دفعت شركات كبرى مثل علي بابا إلى إعلان استثمارات تتجاوز 53 مليار دولار لتطوير ما تسميه "الذكاء الاصطناعي العام".
التفوق الأميركي مستمر.. لكن الوقت يضيق
رغم التقدم الصيني اللافت، ما زالت الولايات المتحدة تحتفظ بأسبقية واضحة بفضل هيمنتها على صناعة الشرائح المتقدمة وشبكة المستثمرين الذين ضخوا أكثر من 104 مليارات دولار في شركات الذكاء الاصطناعي خلال النصف الأول من عام 2025.
ويرى المسؤول الأميركي السابق كريس ماغواير أن "التفوق الأميركي يُقاس بالأشهر لا بالسنوات"، مشيرًا إلى أن النماذج الصينية بدأت تنافس نظيراتها الأميركية في معظم المهام، باستثناء البحث على الإنترنت.
الصين تراهن على الكثافة والسرعة
تتحرك بكين بسرعة في تطبيقات الذكاء الاصطناعي الميدانية: الروبوتات، السيارات الذاتية القيادة، والطائرات المسيّرة. وتعتبر القيادة الصينية أن إطلاق "شات جي بي تي" عام 2022 كان بمثابة "لحظة سبوتنيك جديدة"، دفعتها إلى تسريع برامج التطوير التكنولوجي لتحقيق رؤيتها بأن تكون قائدة الذكاء الاصطناعي بحلول عام 2030.
ومن خلال مشروع "الذكاء الاصطناعي بلس"، تخطط الصين لدمج هذه التقنية في 70% من قطاعات الاقتصاد بحلول 2027، و90% بحلول 2030، مع تعزيز الاستقلالية في مجال أشباه الموصلات لمواجهة العقوبات الأميركية.
السرب يهزم العملاق
في معركة الشرائح، تتبنّى الصين إستراتيجية "السرب يهزم العملاق" بقيادة هواوي، عبر ربط مئات الآلاف من الشرائح المحلية لتعويض غياب الشرائح الأميركية الفائقة مثل Nvidia GH200. ورغم أن هذا الحل أكثر استهلاكًا للطاقة، فإنه يتيح للصين قدرات حوسبة ضخمة مدعومة بتخفيضات حكومية في أسعار الكهرباء وتشجيع لاستخدام الشرائح المحلية.
لكنّ خبراء يؤكدون أن الصين ما زالت متأخرة بنحو عقد زمني عن الولايات المتحدة في هذا المضمار.
تحذيرات من "حرب باردة رقمية"
يحذّر بول تريولو، الخبير في مجموعة DGA-Albright Stonebridge، من أن هذا السباق قد يتحول إلى "نبوءة تحقق ذاتها"، مع تصاعد التجسس الإلكتروني والتنافس العسكري في تطبيقات الذكاء الاصطناعي.
أما هيلين تونر من جامعة جورج تاون، فترى أن التفوق المستقبلي لن يُحسم بالأموال فقط، بل بقدرة كل دولة على تطوير نماذج أكثر ذكاءً واستقرارًا.
في جوهره، لا يبدو الصراع بين واشنطن وبكين مجرد منافسة تكنولوجية، بل سباقًا على الهيمنة على مستقبل البشرية، حيث تتقاطع الطموحات بالهواجس، ويُعاد رسم ميزان القوى العالمي بصمت الخوادم وحرارة المعالجات، لا بأزيز المدافع.