مقالات
كاتب فلسطيني من غزة
حاصل على شهادتي بكالوريوس علوم قانونية وإدارية
ودورة في القانون الدولي
رغم الضربات التي تلقاها في حرب الإسناد ثمّ حرب أولي البأس، لا يزال حزب الله هاجسًا وجوديًا لـ"إسرائيل"، وقد أيقنت بالتجربة العملية خلال 66 يومًا من المعارك البرية، والتي عجزت خلالها عن تحقيق أيّ توغلٍ بريّ، وظل جيشها ينزف عجزًا وقتلى عند قرى الحافّة، أنّ الحزب عقبةٌ لن تزول بالقوّة، ولا بمزيدٍ من القوّة.
ولكن هذا اليقين لا يعني الركون والاستسلام، بل يعني البحث عن وسائل أكثر نجاعةً، وإن استغرقت زمنًا أطول، وما قاله وزير الحرب الصهيوني يسرائيل كاتس، يدخل ضمن هذا الإطار، حيث قال "سنواصل العمل من أجل إلزام الحكومة اللبنانية بنزع سلاح حزب الله"، وهنا ضمنًا يستبعد الحرب، ويؤكد على الضغط السياسي والاقتصادي والمالي والإعلامي، وكلّ وسائل ممكنة - باستثناء "الجيش الإسرائيلي" - لتحقيق الهدف.
رغم أنّ هذا الوزير ضمن عدة وزراء في حكومة نتنياهو، لا يؤخذون على محمل الجدّ، حتّى في الصحافة العبرية، ولكن تصريحاته تصلح للاستئناس، باعتباره صدى لسان نتنياهو المعقود، ولنا مثلٌ في تصريحه عن نيّة الاستيطان في غزّة، قبيل زيارة نتنياهو المرتقبة إلى أميركا، ثمّ العزوف عنه مثل صالح للقياس.
هذان تصريحان يتواءمان على ما يبدو مع ما سيتم طرحه في لقاء ترامب نتنياهو في ميامي، حيث هناك قناعة أميركية بأنّ التجربة الميدانية "للجيش الإسرائيلي" أثبتت افتقاره لوسائل الحسم، وبالتالي عدم زجّه مجددًا في أتون حربٍ لا ضماناتٍ على حسمها، بل قد تأتي بنتائج عكسية، تفقد الكيان مكتسباته التكتيكية، في حروبه السابقة.
كذلك في غزّة، يبدو تصريح كاتس عن استيطانها، جزءًا من استباق نتنياهو للضغط الأميركي حول دخول المرحلة الثانية من اتفاق وقف النار حيّز التنفيذ، وسحب التصريح لا يعني التراجع عنه، بل يعني أنّ نتنياهو قد يطرحه على ترامب باعتباره تنازلًا، ويُعيد الأسطوانة "الإسرائيلية" القديمة المتجددة، عن ضغط الحكومة و"الكنيست" والشارع.
وهذا النوع من التنازلات، فارغة المضمون هامشية المفعول، وهي تشبه ما نقل عن مسؤولين أندونيسيين وماليزيين، قبيل اعتراف فرنسا وبريطانيا بالدولة الفلسطينية، حيث عرض الرئيس الفرنسي ورئيس الوزراء البريطاني، على الرئيسين الأندونيسي والماليزي، اعترافهما بـ"إسرائيل"، مقابل اعتراف فرنسا وبريطانيا بالدولة الفلسطينية، فرفض الرئيسان الأندونيسي والماليزي العرض، باعتبار أنّ "إسرائيل" غير محدّدة بحدود ثابتة وواضحة.
وهنا لم تكتفِ فرنسا وبريطانيا بتجريد الفلسطينيين من حقوقهم المشروعة بالمقاومة وتجريمها، مقابل اعترافهم الهزلي بدولة فلسطينية، إنّما تعاملوا مع اعترافهم بالدولة الهلامية الورقية باعتباره تنازلًا، وليس واجبًا أخلاقيًا وسياسيًا وتاريخيًا وحقًا مشروعًا، ويريدون مقابله تحصيل تنازلات إقليمية ودولية تخدم "إسرائيل" عبر اعتراف العالم الإسلامي بها.
وهكذا هي حقائق الأمور، فكلّ ما يبدو أنّه تضاد غربي مع السلوكيات "الإسرائيلية" ما هو إلّا خدمة لها من تحت الطاولة، كالمؤتمرات التي عُقدت وستُعقد لدعم الجيش اللبناني، هي في مضمونها وحسب النوايا الغربية خدمة للكيان، حيث يسعون من خلال هذا الدعم، للوصول بالجيش لمرحلة الصدام مع المقاومة، وليس الهدف دعم الجيش بما يجعله قادرًا على نزع سلاح المقاومة، بل ما يجعله قادرًا على ديمومة الحرب إلى أجلٍ غير مسمى، واحتراب أهلي بلا أفق، فينشغل الجميع بالجميع عن أطماع "إسرائيل"، وليس السودان عنّا ببعيد.
ولكن المعضلة اليوم في "إسرائيل"، أنّه لا حلول عسكرية متاحة لإنهاء حالة المقاومة، كذلك لا حلول متاحة لفكّ ترابط جبهة المقاومة، والأخطر أنّها لم تعد تملك ترف الوقت لممارسة سياسة الاحتواء، فتستطيع من خلالها التعايش مع قوى لا تكفّ عن الترميم ومراكمة وسائل القوّة يوميًا، في غزّة ولبنان واليمن وإيران.
وهذا ما يجعل من زيارة نتنياهو المرتقبة لأميركا، كاشفة ومحفوفة بالكثير من التعقيدات، وقد تكون حاسمة على مصير نتنياهو السياسي، رغم أنّ الكيان لا يملك خيارًا آخر، ولكن قد يكون لدى ترامب خيارات أخرى، خصوصًا إذا أخذنا بعين الاعتبار، أنّ صناديق الانتخابات "الإسرائيلية"، دائمًا متعطشة للدم العربي، وذلك بعكس الصناديق الأميركية، التي ستجعل الجمهوريين يخسرون الكونغرس بسبب الحروب "الإسرائيلية"، فهل يعود نتنياهو من ميامي بالحرب أم بوعود التطبيع أم بخسارة مستقبله السياسي مع عفوٍ جنائي؟