مقالات مختارة
بدر الحاج - صحيفة الأخبار
الاجتماعات التي كان يعقدها إلياهو ساسون، مدير القسم العربي في الوكالة اليهودية، وفريق عمله مع القيادات السياسية والدينية في الكيانات المحيطة بفلسطين خلال ثورة 1936 - 1939 كانت تتم تحت شعار العمل للوصول إلى تفاهم "عربي - يهودي". أمّا عمليًا، فقد كان الهدف الحقيقي التنسيق مع بعض القيادات السياسية لمنع تدفّق السلاح والمقاتلين إلى فلسطين، وإيقاف حملات التبرّع لثوّار فلسطين، ومنع الصحف من الدعوة لدعم الفلسطينيين، إضافة إلى تعزير التوجّهات الكيانية والصراعات المذهبية، وهذا ما نعيشه اليوم.
استغلّ قادة الوكالة اليهودية الخلافات السياسية والمخاوف الطائفية ونشطوا لتحقيق أهدافهم. في دمشق، استغلّ ساسون الخلافات بين قادة الكتلة الوطنية، خاصة بين تحالف جميل مردم بك ولطفي الحفار ونسيب بكري، وعمل مع الثلاثة على السير عكس التيار الشعبي الجارف الذي كان ينشط بتقديم أنواع الدعم كافة للفلسطينيين. في صيف 1936 كان التأييد الشعبي السوري لثوار فلسطين عارمًا، إذ تدفّق مئات السوريين والتحقوا بالثوار، كذلك جرى تهريب السلاح إلى داخل فلسطين وتوسّعت حركة التبرّع بالأموال لدعم الثورة، وكانت الصحافة متجاوبة مع الدعم الشعبي. لكن جميل مردم، رجل بريطانيا الأول في دمشق، وأنصاره كانوا في تضاد مع ذلك التوجّه الشعبي. وكان يقف في مواجهة مردم بك وأنصاره مجموعة أخرى من قيادات الكتلة الوطنية بقيادة عبد الرحمن الشهبندر.
كان جميل مردم متعاونًا إلى أقصى الحدود مع الوكالة اليهودية. ونتيجة لخدماته التي قدّمها للبريطانيين واليهود، ثبّته الجنرال دايفيد سترلينغ في أواخر 1946 في رئاسة الحكومة وأزاح منافسه سعدالله الجابري، رغم إدانته بجريمة اغتيال عبد الرحمن الشهبندر وهربه إلى بغداد حيث التقى بنوري السعيد ورجل المخابرات البريطانية كيناهان كورنواليس مستشار الملك فيصل. كما إنه عمل مع ضباط مخابرات بريطانيين في القاهرة أمثال الجنرال كلايتون بهدف طرد الفرنسيين من سورية ولبنان في عمليةٍ أشرف عليها الجنرال سبيرس.
تولّي جميل مردم بك المسؤوليات الأساسية في الدولة السورية سبُبه الرئيسي طاعتُه لأسياده البريطانيين. لذلك يمكننا فهم علاقته الوثيقة مع الوكالة اليهودية كما تشير محاضر التقارير التي كتبها ساسون إثر عدة اجتماعات عقدها معه. وفي تقرير بتاريخ 4 كانون الثاني 1937 يذكر ساسون أن حواره برفقة إلياهو ابشتاين مع جميل مردم جرى في دار الحكومة في دمشق حيث سلّماه رسالة تهنئة من حاييم وايزمن بمناسبة توليه منصب رئاسة الوزارة **. وقال: "شكر جميل بك مردم الدكتور وايزمان والسيد شرتوك على التهنئة، وأضاف أن لقائيه مع الدكتور وايزمان في باريس كان لهما أثر بالغ عليه. وفي الختام أعرب جميل مردم عن أسفه لعدم تحقيق السلام بين الشعبين — اليهودي والعربي — لكنّه يعتقد أن هذا الخلاف هو خلاف بين أقارب لا غرباء، ولذلك فهو ينظر إلى المستقبل بتفاؤل".
وفي تقرير آخر من بيروت بتاريخ 23/10/1937 ينقل ساسون رفض جميل مردم بك السماح للمفتي الحاج أمين الحسيني بالإقامة في سورية، ويشير إلى أن مؤيدي المفتي من السوريين أمثال نبيه العظمة وعبد الرحمن الشهبندر اعتبروا أن "الفرنسيين كانوا أكثر أدبًا من جميل مردم وأصدقائه، الذين يخشون إقامة المفتي في بلادهم".
وفي تقرير من بيروت في تشرين الأول 1937، يقول: "وقد أفادَ مصدرٌ موثوقٌ في دمشقَ أنّ ممثّلَ فرنسا في سورية طلبَ رسميًّا من رئيسِ الوزراء أن يمنعَ عادلَ العَظْمة، مديرَ قسمِ الداخليّة في الحكومة، من الانشغالِ بمسألةِ فلسطين، وأن يحولَ دونَ زيارةِ المنفيّين الفلسطينيّين لمكاتبِ الحكومة وإجرائِهم محادثاتٍ خاصّةً مع الموظّفين. ووعدَ رئيسُ الوزراء جميل مردم بأن يُنبّهَ وزيرَ الداخليّة إلى تلك المطالب، فأجابَ الوزيرُ بأنّه — بعد تنظيمِ العلاقات بين سورية وفرنسا — سيكونُ مستعدًّا لتنفيذِ مطالبِ الفرنسيّين، التي هي في جوهرِها مطالبُ الإنكليز. ولم يشأ أن يُسيءَ إلى علاقاته مع أنصارِ "الوحدة العربيّة" والفلسطينيّين، في حينِ أنّهم يُشكّلون في يده سلاحًا حادًا في معركته من أجلِ حقوقِ بلاده".
وفي تقرير كتبه ساسون من دمشق في 25 تموز 1938 بعد اجتماع مع جميل مردم في منزله، يلخص اللقاء بالقول: "عرضتُ أمامه كلّ المعلومات التي لدينا عن نشاطات المفتي ورجاله في سورية ولبنان، وعن الدعم الذي يتلقّونه من السلطات السورية. وركّزتُ على نشاطات عادل العظمة، ونبيه العظمة، ومنير الريّس، والحاج أديب خير، ونافع القدسي، وآخرين في دعم عرب أرض فلسطين. ذكّرتُه بـ"مؤتمر بلودان" الذي عُقد دعمًا لعرب أرض فلسطين، وبأن الحكومة السورية أيدت قراراته. كما أشرتُ إلى الحرية الكاملة التي يتمتع بها المنفيّون والإرهابيون الفلسطينيون في المدن السورية، وإلى تجارة السلاح والفوضى على الحدود". وكانت أجوبة مردم بك كما أوضح التقرير تعكس عداءه وسعيه الدؤوب لمنع أي نشاط مؤيد للثورة الفلسطينية، ومما قاله: "إنه مقتنع بأن مؤتمر بلودان أضرّ بمصالح سورية، وأوضح لي أن المؤتمر انعقد في أيام غيابه عن دمشق، إذ كان حينها في باريس.
ولو كان موجودًا في دمشق لما سمح بعقد المؤتمر في بلاده. وللأسف، لم يشعر زملاؤه إلا متأخرًا بالأضرار السياسية التي ألحقها بهم ذلك المؤتمر. وأن المؤتمر البرلماني الجديد لن ينعقد في سورية. ورفض بشدّة الاقتراح بعقده في بلودان. لم يكن في وسع رئيس مجلس النواب السوري رفض دعوة المبادر، علي علوبة باشا، بما أن مجالس نواب الدول العربية الأخرى استجابت بترحاب، لكنّه سيصرّ على أن يشارك نواب مجلس نواب سورية، إذا عُقد المؤتمر، بصفة أفراد فقط لا بصفة ممثلين رسميين للبرلمان".
وفي الختام أبلغه بالتالي:
1 - طلبنا سرًّا من المندوب السامي الفرنسي أن يعارض انتقال المفتي الحسيني من لبنان إلى سورية.
2 - السلاح المهرب إلى فلسطين لا يمر عبر سورية بل يصل عن طريق البحر إلى صيدا وصور ويتم نقله عبر قرى الجنوب اللبناني إلى فلسطين.
3 - منذ ثلاثة أشهر أصدرت تعليمات صارمة لمديري المدارس والمقاهي ودور السينما ورؤساء المساجد بمنع أي دعاية تتعلق بالوضع في أرض فلسطين. ومنذ صدور هذه التعليمات وحتّى الآن، لم يُسمع أيّ خطابٍ معادٍ للصهيونية أو معادٍ لبريطانيا في هذه الأماكن. يوم الجمعة الماضي، حاول أحد المصلّين في المسجد الأموي (أكبر مساجد دمشق) أن يُلقي خطابَ احتجاجٍ على القصف الذي تعرّضت له الأحياء العربية في حيفا والقدس، فأنزلوه من المنبر واضطرّ رجال الشرطة إلى إطلاق النار في الهواء لإعادة النظام إلى الحشود. علينا أن نفهم أن من الصعب كبح جماح جمهورٍ متحمّسٍ يريد التعبير عن مشاعره.
وختم مردم بك اللقاء بقوله: "لا يخطر ببال أيٍّ من أبناء الشعب اليهودي أن حكومة سورية، ما دمتُ على رأسها، قد تسمح بعقد مؤامرة على حساب دماء الشعب اليهودي. لم أتوقع أبدًا أن أرى الشعب اليهودي يقف في معركة دامية رهيبة كهذه الدائرة الآن في أرض فلسطين. لا يوجد لدى هذين الشعبين أيّ سندٍ في العالم سوى قوّتهما الذاتية وإيمانهما بحقهما في الحياة. فلا نُهلِك أنفسنا باليأس".
هذا بعض من دور جميل مردم الخياني، وفي حرب 1948 كان دوره فاضحًا، إذ قيل إن الشاعر عمر أبو ريشة قصده بقوله:
"إن أرحام السبايا لم تلد
مجرمًا مثل هذا المجرم".
** تولى جميل مردم بك رئاسة الحكومة السورية في 21 كانون الأول 1936، ويبدو أن زيارة الوفد الصهيوني هي للبحث في الأوضاع في فلسطين وتهنئته بالمنصب.