خاص العهد
لم يكد الاجتماع الذي جمع وزيري المال والتربية بروابط التعليم ينعقد حتّى انطلقت شرارة الغضب مجددًا في صفوف موظفي التعليم. وفي الضفة ذاتها، دخل إضراب موظفي الإدارة العامة، الخميس 11/12/2025، يومه الثاني وسط استمرار تجاهل مطالب تحسين الرواتب والأجور، ما أدى إلى إقفال شبه تام في الدوائر الرسمية وتعطّل واسع في الخدمات الإدارية.
فبين "وعود" تُسوَّق على أنها فتحٌ في جدار الجمود، وحقيقةٍ تُعيد تثبيت المعادلة القديمة: لا تعديل للرواتب خارج مشروع مجلس الخدمة المدنية العالق في أدراج الحكومة منذ ستة أشهر، وجد الموظفون أنفسهم أمام محاولة جديدة لابتزازهم عبر ربط أي زيادة بإقرار تعديلات تطاول نظام التقاعد ومكتسباتهم التاريخية.
وهكذا، اندفعت الروابط إلى التصعيد، معلنةً سلسلة تحركات وإضرابات بدأت بتنفيذها على أن تتصاعد في الأيام المقبلة، فيما تبدو السلطة ماضية في سياسة التقسيط وشراء الوقت، متعاميةً عن واقع الموظفين المتردي، ما يعمق أزماتهم على مختلف الصعد.
وهبي: الرواتب لا تحتمل انتظار 2030 والقطاع العام الخاسر الأكبر
يؤكّد مندوب وزارة المال في تجمع موظفي الإدارة العامة، حسن وهبي، في حديثه لموقع العهد الإخباري، أنّ مشروع تصحيح الرواتب الذي أعدّه مجلس الخدمة المدنية في تموز/يوليو 2024، ورغم ما يتضمّنه من إيجابيات، يحتاج إلى مراجعة شاملة قبل السير به، محذّرًا من أنّ اعتماده بصيغته الحالية سيُكرّس ظلمًا إضافيًا بحق موظفي الإدارة العامة.
ويشير وهبي إلى أنّ المشروع المطروح الذي يجري الترويج له داخل الحكومة وبعض الروابط يحتوي على مجموعة من الخطوات الإيجابية، أبرزها: تصحيح أساس الراتب وإلغاء المساعدات الاستثنائية وشروطها، إعادة احتساب الإجازات السنوية، تخصيص إجازة أبوة، إنصاف الأجراء، معالجة ملف التعيينات المخالفة، رفع سن التقاعد، ورفع الحد الأدنى للأجور وربطه بالتعويضات. إلا أنّ هذه الجوانب المضيئة، وفق وهبي، لا تلغي وجود ثغرات كبيرة يجب الوقوف عندها.
في ملف الرواتب والأجور، ينتقد وهبي خطة رفع الرواتب تدريجيًا وصولًا إلى 46 ضعفًا عام 2030، معتبرًا أنّ المهلة الزمنية طويلة جدًا ولا يتحمّلها الموظفون الذين بالكاد يصمدون أمام التضخم. ويرى أنّ ربط أي تحسين فعلي ببداية عام 2027 يحرم آلاف الموظفين من أي زيادة لسنتين إضافيتين، رغم أنّ المشروع يفرض دوام 35 ساعة أسبوعيًا غير منسجم مع القيمة الشرائية المتآكلة للرواتب. ويضيف أنّ موظفي الإدارة العامة سيبقون الخاسر الأكبر مقارنة بالمستخدمين في بعض المؤسسات العامة الذين حصلوا مسبقًا على تصحيح يفوق نسبة 75%.
وفي الحد الأدنى للأجور، يعتبر وهبي أنّ رفعه إلى 20 مليون ليرة بات غير منطقي، بعدما أصبح الحد الأدنى في القطاع الخاص 28 مليونًا، ما يجعل المقارنة مجحفة بحق موظفي الدولة.
أما في ملف الدوام، فيصف الدوام المتحرّك المقترح بـ"غير القابل للتطبيق"، لكونه يخلّف فوضى بين الإدارات ويُلزم الموظفين بخيارات يفرضها المدير العام والوزير لا حاجات العمل. ويشدّد على أنّ تجربة الـ35 ساعة فشلت سابقًا، وأن أغلب الإدارات غير قادرة لوجستيًا على العمل لساعات إضافية لا ينتج عنها أي مردود فعلي للدولة.
وفي ملف التقاعد، يلفت وهبي إلى تعديلات يعتبرها خطيرة، منها: تخفيض نسبة المعاش التقاعدي إلى 70% للداخلين الجدد، تقليص استفادة ذوي الموظف المتوفي، حرمان العازبات من المعاش بعد سن 25، وربط وقف المعاش بأي مدخول خارج الدولة. ويعتبر أنّ هذه التعديلات تضرب جوهر النظام التقاعدي، وتمهّد لاستهداف الضمانات الاجتماعية التي تشكّل أساس الوظيفة العامة، مشيرًا إلى أنّ هذه الإجراءات تأتي في سياق ضغوط خارجية معروفة.
وفي خلاصة موقفه، يؤكد وهبي رفض تجمع موظفي الإدارة العامة للمشروع بصيغته الحالية، مطالبًا بما يلي: زيادة سريعة تدخل في أساس الراتب دون تجزئة، مراعاة عدد أيام العمل السنوية لموظفي الإدارة، استعادة القيمة الشرائية للرواتب كما كانت قبل الأزمة، العودة إلى الدوام الرسمي السابق مع الإبقاء على عطلة السبت، رفض التعديلات المطروحة على نظام التقاعد.
ويختم وهبي حديثه لموقعنا بالإشارة إلى أنّ التجمع سيصدر قريبًا بيانًا مفصلًا حول مشروع موازنة 2026 الذي تجاهل بشكل كامل حقوق العاملين في القطاع العام.
العمر: التجاهل الرسمي دفع الأساتذة إلى التصعيد
في السياق نفسه، يؤكد رئيس رابطة أساتذة التعليم الثانوي، جمال العمر، في حديثه لموقع العهد الإخباري، أن ما يجري اليوم على مستوى التحركات ليس جديدًا على الأساتذة، بل هو امتداد لمسار بدأ منذ بداية العام الدراسي. ويشير إلى أنّ الرابطة بدأت العام الحالي تحت وطأة حجم كبير من الهموم والمطالبات، محاوِلة إعطاء مهلة لوزارة التربية والجهات الرسمية من أجل مقاربة ملف الرواتب، لكنّ سياسة "التطنيش" هي التي سادت طوال الأشهر الماضية.
ويشير العمر إلى أنّ الرابطة قامت بجولة على مختلف الكتل النيابية التي أبدت تفهمًا لمطلب تصحيح الرواتب، لكنّها أكدت جميعها أن الحل النهائي موجود لدى وزير المالية، باعتباره الجهة القادرة على تقرير حجم الإيرادات والإمكانات.
ويقول العمر، إن الأساتذة تجنّبوا الإضراب منذ انطلاق السنة الدراسية، وحاولوا قدر الإمكان الحفاظ على انتظام التعليم، فيما سبق لأساتذة التعليم الأساسي أن نفّذوا إضرابًا تضامنًا مع موظفي القطاع العام. إلا أنّ رابطة التعليم الثانويّ قررت النزول إلى الاعتصام الأخير بسبب غياب أي مقاربة رسمية جدية. ويؤكد: "كان اعتصامًا ناجحًا، عبّر خلاله الأساتذة عن رفضهم للتهميش الحاصل".
ويضيف أنّ التحرك أعاد فتح باب النقاش، فدُعيت الرابطة إلى اجتماع مع وزير المالية بحضور وزيرة التربية، وعُرضت خلاله المطالب الأساسية: من السلسلة التي يدرك الأساتذة صعوبة تحقيقها حاليًا، إلى مطلب تصحيح إضافي يضمن انطلاقة جدية للعام الدراسي. ويشير إلى أنّ مطلب الرابطة واضح: رفع الرواتب من مستوى 22-23 ضعفًا (مع البدلات التي تعادل 10-11 ضعفًا) إلى نحو 37 ضعفًا.
كذلك يشدد العمر على ضرورة إدخال المثابرة في أساس الراتب، لافتًا إلى أنّ أوضاع التقاعد الحالية كارثية: "الأستاذ الذي يخدم 40 سنة يخرج اليوم بـ 300 إلى 350 دولارًا، وهذا غير مقبول بأي معيار. ويؤكد أنّ ضمّ العطاءات إلى الأساس ضرورة لحماية التقاعد.
ويشير إلى أنّ الرابطة طرحت خلال الاجتماع مطلب زيادة فورية توازي 12 إلى 13 ضعفًا على الراتب، وقد لمسَت تفهمًا من وزير المالية الذي قال بوضوح، إن الأستاذ لا يملك عملًا ثانيًا، وإن عبء التحضير والتصحيح يجعله في عمل دائم حتّى داخل منزله.
ويعبّر العمر عن استغرابه لعدم إدراج هذه البنود في جدول أعمال مجلس الوزراء اللاحق، ما دفع الرابطة والقطاع التعليمي إلى إعلان الإضراب بعدما وُعدنا أن تُدرج البنود ولم يحصل ذلك، لذلك كان لا بد من خطوة لإيصال رسالة للحكومة مفادها، أن "حقوقنا ليست تفصيلًا".
ويضيف أنّ اتساع الإضراب في الإدارات العامة يعود إلى ارتباط الملف بالنقطة المفصلية الحالية: الموازنة الجديدة. ويؤكد: "الموازنة تُطبخ الآن، وإذا لم تُدرج فيها زيادة للقطاع العام، فلن يكون ممكنًا تحصيلها لاحقًا". ويشدد على أن الهدف من التحرك الواسع هو إيصال رسالة واضحة خلال دراسة الموازنة بأنه "لا يمكن تجاهل القطاع العام بعد هذا القدر من الانهيار".
ويختم العمر مؤكدًا أنّ الرابطة ستواصل تحركاتها وضغطها حتّى إدراج تصحيح الرواتب في موازنة 2026، بما يعيد الحد الأدنى من الكرامة للأستاذ ويضمن استمرار العام الدراسي.
بشارة الأسمر: القطاع العام يصنع الاستقرار الاجتماعي
يؤكد رئيس الاتحاد العمالي العام؛ بشارة الأسمر، في تصريح لموقع العهد الإخباري، أنّ الإضراب الأخير الذي نفّذه القطاع العام وروابط التعليم حظي باستجابة واسعة على الرغم من الضغوط التي مورست في بعض الوزارات لإبقاء العمل قائمًا.
ويشدّد على أنّ الدعوة التي أطلقها الاتحاد كانت ضرورية وفعّالة، ونجحت في لفت انتباه الرأي العام والسلطات إلى عمق الأزمة التي يعيشها موظفو الدولة، مؤكدًا أنّ الاتحاد سيواصل تحركاته بالتوازي مع المساعي المبذولة لفتح قنوات تواصل مع المسؤولين، على أمل أن تأتي الموازنة المقبلة منصفة للقطاع العام، تتضمّن زيادات تعيد جزءًا من الحقوق التي خسرها الموظفون منذ الانهيار.
ويوضح الأسمر أنّ الإضرابات التي بدأت مع روابط التعليم توسّعت نحو الإدارات العامة؛ لأن العاملين لم يعودوا قادرين على تحمّل المزيد من الوعود غير المنفّذة. فبحسب قوله، نسمع وعودًا منذ سنوات، لكنّها لا تتحقق، والمسؤولون يتذرعون دائمًا بعدم وجود الأموال، معتبرًا أنّ هذه الذريعة لم تعد تقنع أحدًا.
ويؤكد أنّ موظفي القطاع العام دفعوا "ثمنًا غاليًا" رغم أنهم يشكلون الركن الأساس لمدخول الدولة عبر الدوائر العقارية والجمرك والمصالح المستقلة، وهو ما يجعل إطلاق حوار جدّي وصريح أمرًا ملحًّا. ويرى أنّ هذا الحوار يجب أن يستند إلى مشروع مجلس الخدمة المدنية المطروح، مع أولوية لضمّ المنح والمساعدات الشهرية إلى صلب الراتب؛ لأن القانون لا يعترف بمفهوم المساعدات الدائمة، ولأن إنصاف العاملين مدنيين وعسكريين ومتقاعدين وروابط تعليمية لم يعد يحتمل التأجيل.
ويشير الأسمر إلى أنّ الاتحاد والهيئات التمثيلية للموظفين هما دائمًا من يبادران إلى التحرك وليس المسؤولين، قائلًا:
"هناك غياب تام للمعالجات، ونحن نعتبر أنفسنا أمّ الصبي. هذه المؤسسات قائمة على جهود الناس العاملين فيها". ويضيف أنّ الضغوط الميدانية ستستمر بالتوازي مع محاولات التفاوض؛ لأن الموظفين لم يعد بإمكانهم الاستمرار برواتب فقدت قيمتها، فيما الدولة تتجاهل واقعهم.
وفي ختام حديثه، يطرح الأسمر مفارقة يراها معبّرة عن حال الدولة، سائلًا: "هل يُعقل أن ندعو المستثمرين والشركات العربية والأجنبية إلى لبنان، فيما نستقبلهم بإضرابات في كلّ القطاعات؟". ويشدّد على أنّ الحد الأدنى من الاستقرار الاجتماعي يبدأ من تأمين مقومات عمل القطاع العام، من القضاء إلى الكهرباء والاتّصالات والمصالح المستقلة والمؤسسات العامة، إضافة إلى الأجهزة الأمنية والعسكرية؟
ويقول الأسمر إن المطلوب اليوم ليس إعطاء كلّ الحقوق دفعة واحدة، بل منح جزءٍ منها على الأقل، بما يسمح باستمرار المؤسسات في أداء مهامها ويؤمّن بيئة مقبولة لأي استثمار أو حضور اقتصادي عربي في البلاد؛ لأن الاستقرار الاجتماعي يصنعه القطاع العام، مدنيًا وعسكريًا.