مقالات
منذ عام 2006، ثبّت لبنان معادلة دقيقة في الجنوب: انتشار الجيش جنوب الليطاني وفقًا للقرار 1701، مقابل تموضع هادئ للمقاومة خارج مناطق الاحتكاك المباشر، في صيغة غير مكتوبة، لكنها حافظت على استقرار نسبي وعلى قدر من الردع في مواجهة "إسرائيل". هذا التفاهم الضمني لم يكن ترفًا سياسيًا، بل حاجة لبنانية فرضتها هشاشة البنية العسكرية للدولة من جهة، ورفض اللبنانيين الانجرار إلى حرب مفتوحة من جهة أخرى.
اليوم، يعود هذا الخطّ الفاصل إلى واجهة النقاش، ليس بسبب تبدّل داخلي، بل تحت وطأة الضغوط "الإسرائيلية" والأميركية التي تريد تحويل ملف «شمال الليطاني» إلى بابٍ لإعادة صياغة قواعد اللعبة في الداخل اللبناني. فالسؤال المطروح: إذا كان الجيش يسيطر جنوبًا، فماذا عن شمال الليطاني؟ وهل المطلوب فعلاً إخراج المقاومة من كامل الجنوب تحت عنوان «الحلول الدبلوماسية»، فيما تبقى "إسرائيل" على حريتها في الخرق والتصعيد والاغتيال؟
في هذا الإطار، يطرح حزب الله موقفًا هادئًا وواضحًا: هذا الموضوع شأن لبناني داخلي يُناقش بين اللبنانيين أنفسهم، ولا علاقة لـ"إسرائيل" ولا للولايات المتحدة بتحديد شكل الوجود الدفاعي للمقاومة داخل أراضي لبنان. فالحزب يعتبر أنّ المقاومة جزء من منظومة الحماية التي منعت سقوط الجنوب طوال عقود، وأنّ أي بحث في مستقبل دورها يجب أن يتم ضمن رؤية وطنية شاملة، لا ضمن أجندات خارجية تريد نزع عناصر القوة من لبنان وتحويله إلى ساحة مكشوفة بالكامل.
ويأتي هذا النقاش في وقت تسود فيه مخاوف حقيقية من تصعيد "إسرائيلي" قد يشمل الجنوب والضاحية الجنوبية، وقد يمتد إلى عمليات اغتيال تستهدف كوادر المقاومة. وفي حال فرضت "إسرائيل" وقف إطلاق نار بشروطها، قد يجد لبنان نفسه أمام اتفاق أسوأ من الواقع القائم، بشروط يُملى جزء منها بالنار لا بالدبلوماسية.
وسط هذه التعقيدات، تستعد لجنة «الميكانيزم» للاجتماع في 19 كانون الأول، فيما يقف لبنان أمام معادلة حرجة:
– لا قدرة على المواجهة العسكرية الشاملة.
– ولا ضمانات دولية تردع "إسرائيل".
– ولا إجماع داخلي حول ملف السلاح.
ومع ذلك، يبقى واضحًا أنّ إضعاف المقاومة دون توفير بديل دفاعي حقيقي سيضع الدولة أمام أخطر انكشاف أمني في تاريخها، كما أنّ تحويل الانقسام الداخلي إلى منصة لإملاءات خارجية قد يفتح الباب أمام تسويات قسرية تغيّر شكل الخريطة الأمنية والسياسية في لبنان.
نحو موقف وطني موحد
إنّ المرحلة المقبلة تفرض على اللبنانيين، بكل مكوّناتهم، بلورة موقف وطني موحّد يحدّد أولويات البلاد ويفصل بين النقاش السياسي الداخلي المشروع وبين الضغوط الخارجية التي تستهدف بنية القوة اللبنانية. فالمطلوب ليس إجماعًا على كل التفاصيل، بل اتفاق على الخطوط العريضة لحماية لبنان ومنع انزلاقه إلى حرب مفروضة أو تسوية مذلّة.
التحدّي الأكبر اليوم هو: هل يستطيع اللبنانيون إدارة هذه الاستحقاقات بوعي وطني، أم أنّ البلاد ستبقى عالقة بين جنوب الليطاني وشماله، تتجاذبها الضغوط، فيما تضيع مصلحة الدولة بين الداخل المشتّت والخارج المتربّص؟.