مقالات
Former Lebanese government coordinator to UNIFIL .Former Director General of Administration . Former President of the Permanent Military Court
عميد متقاعد في الجيش اللبناني/ منسق الحكومة اللبنانية السابق لدى قوات الطوارئ الدولية
ورئيس المحكمة العسكرية السابق
لم يعد اقتراع المغتربين في لبنان معركة حقوق، بل صار ساحة مكشوفة لمناورات سياسية فجة، تُرفع فيها شعارات “الإصلاح” و“الديموقراطية” فيما الغاية الفعلية واحدة: إعادة إنتاج السلطة نفسها بوسائل أكثر خبثاً. فاقتراح قانون حق المغترب بالاقتراع، كما طُرح وروّج له، لا يحمل في جوهره أي نية إصلاحية، بل هو محاولة مدروسة لاستثمار الاغتراب اللبناني كخزان انتخابي طائفي، يُستدعى عند الحاجة ويُهمَّش عند أول تعارض مع مصالح الزعامات.
الوقاحة السياسية هنا ليست في المطالبة بحقّ المغترب، فهذا حق بديهي ومُصادَر منذ عقود، بل في توقيت الطرح، وصيغته، والجهات التي تتبنّاه. فجأة، اكتشف بعض أطراف المنظومة، وفي مقدّمهم رئيس حزب "القوات اللبنانية"، أن المغترب “قضية وطنية”، لا لأنه يؤمن بالدولة أو بالمواطنة، بل لأنه يرى فيه أداة انتخابية باردة، تُستخدم من الخارج لتعويض اختلالات الداخل، ولضخ فائض طائفي جديد في نظام يحتضر.
وهنا لا يعود الأمر التباساً في التقدير، بل سلوكاً سياسياً متعمّداً. فرئيس حزب "القوات" لم يطرح القانون بحثاً عن عدالة تمثيلية، بل سعى إلى فرضه أمرًا واقعًا، مستخدماً لغة التحدي والضغط، ثم انتقل بلا تردّد إلى تعطيل اجتماع مجلس النواب ومحاولة إسقاط النصاب، في مشهد يعكس ذهنية من يعتبر المجلس مؤسسة صالحة فقط حين تُنتج ما يخدم طموحه. وحين فشل في فرض إيقاعه، قرر تعطيل الإيقاع نفسه، في محاولة فجّة لتكريس نفسه مركزَ ثقل قسرياً، أو ما يشبه حجر الرحى الذي لا يدور النظام إلا حوله. لكنه فشل في ذلك كما فشلت كل مشاريعه الفتنوية في السابق.
لم تكن المعركة معركة مغتربين، بل معركة نفوذ، أراد فيها أن يقول بوضوح: أنا أو الفراغ.
وفي المقابل، جاء رفض رئيس مجلس النواب نبيه بري تمرير هذا القانون لا من باب العناد أو التعطيل، بل لإدراكه المسبق لخبث الطرح وخطورته السياسية، ولعلمه أن تمريره بهذه الصيغة وفي هذا المناخ المشحون لا يخدم حق المغترب، بل يفتح الباب أمام تفجير توازنات دقيقة وتهديد السلم الأهلي. فالرئيس بري، بخبرته الطويلة في إدارة الانقسامات اللبنانية، قرأ ما وراء النص: قانون يُقدَّم بعنوان حقّي، ويُراد له أن يُستَخدم وقوداً في معركة شدّ أعصاب طائفية، لا خطوة إصلاحية جامعة. وهكذا، لم يكن الرفض إسقاطاً لحق، بل منعاً لاستخدامه كسلاح سياسي في لحظة بالغة الحساسية.
لكن الفضيحة الأكبر لا تكمن في الاقتراح ولا في تعطيله، بل في الصمت المتواطئ حول اتفاق الطائف. هذا الاتفاق الذي يُستحضَر عند تقاسم الصلاحيات، ويُدفَن عمداً عند الحديث عن إلغاء الطائفية السياسية. فالطائف نصّ صراحة على اعتماد المحافظة دائرة انتخابية خارج القيد الطائفي، كمدخل إلزامي لبناء مجلس نواب وطني. هذا النص ليس تفصيلاً ولا اجتهاداً، بل التزام دستوري جرى تعطيله عمداً؛ لأنه يهدد بنية النظام الزبائني.
فلماذا يُقدَّم اقتراع المغتربين ضمن النظام الطائفي نفسه كإنجاز تاريخي، فيما يُصوَّر الخروج من القيد الطائفي كخطر وجودي؟ ولماذا يصبح المغترب “بطلاً ديموقراطياً” إذا صوّت طائفياً من الخارج، و”مغامراً خطيراً” إذا طُرحت مواطنته خارج الاصطفاف المذهبي؟
الجواب ليس غامضاً: المنظومة لا تريد دولة مدنية، ولا مجلساً وطنياً، ولا مواطنين متساوين. هي تريد ناخبين قابلين للفرز، وأصواتاً يمكن شدّها عند اللزوم، سواء من الداخل أو من وراء البحار. لذلك، يُفصل اقتراع المغتربين عمداً عن أي مسار إصلاحي حقيقي، ويُسوَّق كمنّة، فيما هو في الحقيقة أداة إضافية لإطالة عمر النظام نفسه.
خاتمة:
في جوهره، هذا السجال لا يدور حول صندوق اقتراع في سفارة، بل حول سؤال أكبر: هل نريد مواطنين أم طوائف؟ هل نريد دولة أم زعامات؟ فالمغترب اللبناني الذي هاجر هرباً من الحرب والفساد وانسداد الأفق، لا ينتظر من الطبقة السياسية أن تكتشفه موسمياً، ولا أن تستحضره كرافعة انتخابية عند الحاجة. هو يريد دولة تحترمه، لا نظاماً يستدعيه حين تنقصه الأصوات.
إن أخطر ما في هذا الطرح ليس ما يقوله، بل ما يُخفيه: إصرارٌ مَرَضيٌّ على إبقاء لبنان أسير القيد الطائفي، مع تزيين هذا الأسر بشعارات حقوقية. فالحق الذي يُفصل عن مشروع الدولة يتحوّل إلى أداة ابتزاز، والديموقراطية التي تُمارَس بلا مساواة تصبح مجرد إحصاء مذهبي.
لبنان لا يُنقَذ بتوسيع دائرة الاقتراع داخل نظام معطوب، بل بكسر هذا النظام من أساسه. لا يُبنى الوطن بإضافة ناخبين إلى القيد الطائفي، بل بإلغاء القيد نفسه. وكل من يهرب من هذا الاستحقاق، ويتلطّى خلف حقوق مجتزأة ومشاريع مفصّلة على قياس اللحظة، لا يدافع عن المغترب، بل عن خوفه من الدولة.
حتى ذلك الحين، سيبقى اقتراع المغتربين عنواناً جميلاً، يُرفَع عند اللزوم، ويُسحَب عند الخطر، فيما الحقيقة العارية واحدة: سلطة تخشى المواطنة، وتخاف من الدولة، وتستعمل الحقوق… فقط كي لا تقوم الدولة.