مقالات مختارة

تتحضر المنطقة لجملة من التطوّرات التي من المرجّح أن تنعكس على إعادة رسم الخارطة السياسية في المنطقة ككلّ، ولم تكن عجلة هذه التطوّرات لتتحرك لولا توالي المواقف الطارئة والمفاجئة التي أطلقها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بدءاً من إعلانه مباشرة التفاوض مع إيران حول الملف النووي، مروراً بإعلان وقف الحرب الأمريكية على اليمن، وإجراء المباحثات المباشرة مع حركة حماس لإطلاق سراح الجندي الأسير الإسرائيلي – الأمريكي عيدان ألكسندر وصولاً إلى جولته "التاريخية" التي تشمل السعودية والإمارات وقطر، مع احتمال مروره بتركيا للإشراف على الفصول النهائية لحل المعضلة الروسية – الأوكرانية.
هذه المحطات وما يكتنفها من تفاصيل وخطوط اتصال وتفرّعات اضطلعت بها إدارة ترامب بشكل مباشر، وشكّلت نوعاً من الصدمة لبنيامين نتنياهو وأركان حكومته لا سيّما أنها جاءت بالتزامن مع تحضيرات عسكرية واستعدادات لوجستية ضخمة، لاستئناف العدوان الشامل على قطاع غزة واحتلاله بشكل كامل والقضاء على حركة حماس، ومن ثم التفرّغ بشكل كامل لهندسة استهداف المنشآت النووية الإيرانية بالتوازي مع استمرار العدوان على اليمن، إلا أن مشاريع نتنياهو الحربية باتت في حكم المجمّدة، لأنها جاءت متناقضة مع رؤية ترامب لمستقبل المنطقة ومع اتجاهاته لإقفال جبهات الحروب في العالم وتنصيبه رجل السلام العالمي، ما جعل الرجلين على طرفي نقيض وعلى خطين متوازيين يفتقران إلى نقطة تقاطع إلا في إستراتيجية القرار بالحفاظ على "إسرائيل" كمشروع ضامن للمصالح الأمريكية.
ليست المرّة الأولى التي يظهر فيها تباين في السياسات الأمريكية والإسرائيلية إزاء التعامل مع ملفات المنطقة، ولكنه كان ينتهي دائماً بترتيب نقاط الخلاف والتوصل أخيراً إلى اتفاق لا يمسّ بموقع "إسرائيل"، بل يضمن تفوّقها الأمني والعسكري على حساب المصالح العربية، ولكن التباين هذه المرّة اتخذ أشكالاً متعدّدة من النكد السياسي، تمثّل أولاً بفتح قنوات اتصال مباشرة مع أعداء "إسرائيل" (إيران، أنصار الله، حماس) دون الأخذ بالحسبان الموقف الإسرائيلي والانعكاسات السلبية لهذا الانفتاح على مشاريع نتنياهو العسكرية والسياسية، واللافت في خطاب ترامب وخلفيات حركته التركيز على المصلحة الأمريكية البحتة، والتي يرى أنها تقضي بوقف الحروب والنزاعات تمهيداً لتمرير "المشروع الإبراهيمي"، وهذا ما يتناقض مع السياق التاريخي الذي تعتقد به "إسرائيل" وحكامها.
وجّه ترامب سلسلة لكمات مباشرة لنتنياهو، كان أولها خيبته في استدراج قرار أمريكي بشن عدوان مشترك على إيران، وإذ به يفاجأ في المكتب البيضاوي بالإعلان عن بدء جلسات التفاوض وتوالي التصريحات الإيجابية التي تبشّر بقرب توقيع معاهدة تتجاوز الملف النووي نحو عقد اتفاقات تجارية ضخمة، قد تمهّد لتطبيع علاقات إيرانية – أمريكية متوازنة. وحرص ترامب على تمهيد الطريق أمام تحقيق هذا الهدف بإقالة مستشاره للأمن القومي على خلفية تنسيقه مع نتنياهو لاستهداف إيران دون علم ترامب ومن وراء ظهره، ولعلّ الضربة الأقسى تتجلّى في إمكان عدم شموله الكيان المؤقت في جولته الـ"شرق أوسطية" حرصاً على عدم عرقلة خطواته الإبراهيمية مع العرب، والتي قد تتطوّر باتجاه الاتفاق على إعلان "دولة فلسطينية" تحظى برعاية أمريكية سياسية واقتصادية مباشرة لا يكون فيها لإسرائيل أي دور سوى المصادقة مرغمة على القرار الأمريكي.
لا يقتصر جموح "السلام الترامبي" فقط على المنطقة، بل يتعداها إلى العالم كلّه كاسراً التقليد السياسي والدبلوماسي الذي اعتمدته معظم الإدارات الأمريكية السابقة، ولا نغفل في هذا السياق الزيارة التاريخية التي أجراها في فترة رئاسته الأولى إلى كوريا الشمالية ولقاء رئيسها كيم جونغ أون، ولا يبعد أن يقوم بالزيارة نفسها إلى بكين، لا سيّما بعد مبادرة التهدئة المتبادلة بتخفيض الرسوم الجمركية بين البلدين واستعداده لعقد اتفاقات إستراتيجية مع الصين، تضع حداً للصراع المحموم بين قوى الشرق والغرب، فضلاً عن سعيه الحثيث لإنهاء الحرب الروسية – الأوكرانية، حتى لو أتى ذلك على حساب "حلفائه" الأوروربيين.
هل ينجح ترامب في مساعيه لتحقيق "السلام" الموعود؟ وأين موقع "إسرائيل" في خارطة العالم الجديد؟ وهل سيكون لكل ذلك انعكاسه المباشر على لبنان؟ يرى مراقبون بأن التعويل على النتائج الحاسمة مبكر جداً على الرغم مما يبديه ترامب من استعجال لحسم هذه الملفات، نظراً لوجود الكثير من التعقيدات السياسية وتعارض أهداف الأجندات الدولية، ولا يمكن الرهان على السطوة الأمريكية لجعل الجميع يركبون في قارب واحد، نظراً لتداخل المصالح وتشابك الأولويات بحسب كل دولة؛ ولئن كان العرب هم الجهة الوحيدة التي لن تعرقل خطوات ترامب إلا أن لدى "إسرائيل" والأوروبيين حسابات مختلفة، ويرجّح هؤلاء أن يعمد ترامب إلى سياسة التدرّج في حلحلة العقد الإسرائيلية والأوروبية بشكل منفرد مما قد يدفعه إلى تعديل اتجاهاته بما يحفظ مصالح حلفاء الأمس والمستقبل.
ويدعو المراقبون إلى الترقّب والحذر، حيث إن نتنياهو الذي يشعر بتزايد ضغط الطوق حول رقبته قد يعمد إلى مناورات تخريبية على غرار إشعاله فتيل الحرب بين الهند وباكستان بوقيعة ممنهجة، وقد سارع ترامب إلى وأد الحرب قبل تطوّرها إلى مواجهة نووية من شأنها أن تبعثر أوراقه وتعطّل مشروع الطريق الهندي وتمنح الصين دفعاً مهماً في إكمال مبادرة "الحزام والطريق"، وبحسب المراقبين فإن ترامب اعتبر هذا المستجّد لعبة قذرة قام بها نتنياهو ليفجر قنبلة في وجهه، ومن غير المستبعد أن يلجأ نتنياهو إلى تفجير قنابل أخرى في أكثر من جهة بغية الضغط على الرئيس الأمريكي وإعادته إلى سكة التنسيق المشترك، وهو يستند في ذلك إلى قناعة راسخة بعدم قدرة واشنطن على الاستغناء عن "إسرائيل" كمشروع إستراتيجي، وهذا الأمر صحيح إذا ما تعلّق بـ"إسرائيل" ككيان ولكنه لم يكن يوماً متعلقاً بمن يحكمها، وما يهم واشنطن هو الحفاظ على المشروع وليس الحفاظ على الأشخاص، وهذا ما يعلمه نتنياهو تماماً، وهذا ما قد يدفعه إلى تفجير قنابله قبل إلغائه، وبذلك تنفتح المنطقة على احتمالات خطرة تهدد استقرار العالم كلّه.
أما على مستوى لبنان، فيؤكد المراقبون أن أي تطوّر إيجابي أو سلبي سينتج عن الحركة الأمريكية سيترك تأثيراته المباشرة في الداخل اطِّراداً مع ما يجري على الساحتين الفلسطينية والسورية، إلا أن هذه التأثيرات لن تكون بالضرورة مماثلة أو متّسقة مع واقع المنطقة المستجد نظراً لخصوصية الوضع اللبناني وتشابك ملفاته وتناقضات اتجاهات أطرافه السياسية، ولا يستبعد هؤلاء أن يكون لنتائج المفاوضات الإيرانية – الأمريكية انعكاساً على لبنان، فضلاً عن التفاهمات السياسية والاقتصادية التي سيعقدها ترامب في عواصم القرار العربية، والتي لن تكون طهران بعيدة عنها، وهذا ما يحتّم على المسؤولين اللبنانيين الابتعاد عن الزوايا الضيقة التي ينطلقون منها في معالجة القضايا الكبرى وفي مقدمتها وقف الاعتداءات الإسرائيلية وإزالة الاحتلال وإعادة إعمار ما دمّره العدوان والتصالح مع الشعب سياسياً واجتماعياً سعياً لاستعادة الثقة بالدولة ومؤسساتها المختلفة، فحتى اليوم تبدو الحكومة – حسب المراقبين أنفسهم – في وادٍ والقضايا المصيرية التي تهم المواطن اللبناني في وادٍ آخر، ولئن كان الرئيسان جوزف عون ونبيه بري يقاربان هذه الملفات بوعي وحكمة إلا أنه يؤخذ على رئيس الحكومة نواف سلام انشغاله في الاجتهاد بقضايا ثانوية انسجاماً مع مطالب أمريكية مباشرة، لا تخدم المواطن بقدر ما تثقل كاهله بإجراءات مهمة في الشكل ولكنها هامشية في ضرورتها، خصوصاً مع عدم استقامة المؤسسات الرسمية على المستويين الإداري والتنظيمي، وهمّه الأول تحقيق إنجاز يسجّله في عهده الذي سينتهي مع استحقاق الانتخابات النيابية العام المقبل.