مقالات

في الخامس والعشرين من أيار من العام 2000، انبلج فجر الحرية في جنوب لبنان، وأشرقت شمس الانتصار على لبنان والعالم الحر بأسره، باندحار العدو الصهيوني عن الأراضي اللبنانية، تحت ضربات سواعد أبطال المقاومة الإسلامية، وبفعل المعادلة الذهبية، المرتكزة على الثالوث المبارك الآتي: "شعب، جيش، ومقاومة"، ثم تحوّلت من ذهبيةٍ إلى ماسيةٍ، بعدما انضم إليها ركن رابع، وهو رئيس البلاد، وكان وقتذاك، "فخامة المقاوم"، العماد إميل لحود، كما لقّبه سيد شهداء محور المقاومة، سماحة الأمين السيد حسن نصر الله، لذا، فهذا اللقب هو الأحب على قلب لحود. ثم أثبتت هذه المعادلة العظيمة، فعاليتها في تحرير الأرض، وردع العدو، وحماية البلاد، وتجلّى هذا الأمر بوضوحٍ تامٍ، خلال العدوان الصهيوني على لبنان في العام 2006، ثم في العدوان المستمر على لبنان، منذ خريف العام 2023، حيث فشل العدو في الميدان، رغم تفوقه التكنولوجي، وكل إمكانات دول الناتو وبعض الدول العربية، التي وضعت بين إيدي هذا العدو، الذي تمكّن بدوره، من توجيه ضربات أمنية للمقاومة، ولكنه عجز في الميدان، وها هي معركة الخيام، حيث "غرق جنود العدو في رمالها"، وعلا صراخهم، بفعل ضربات المجاهدين، إلا الدليل الدامغ على الفشل المحتّم، هذا على سبيل المثال لا الحصر.
فكفى إضاعة للوقت في البحث عن "إستراتجيات دفاعية" عن لبنان، ما دامت الإستراتيجية التي أثبتت جدواها وفاعليتها، لا تزال حاضرةً وبقوةٍ، وتحظى بتأييد شعبيٍ واسعٍ على الأراضي اللبنانية كافة، بحسب نتائج الانتخابات المحلّية الأخيرة، التي جاءت لمصلحة فريق المقاومة وحلفائه، في "أيار التحرير" الجاري، الذي أسهم في صناعته أي (التحرير) قاماتٍ كبرى، قد لا تتكرر، وفي مقدمها المقاوم العماد لحود، الذي بقي مرفوع الرأس، ولم ينحن أمام العواصف الهوجاء التي ضربت لبنان والمنطقة، ولم تؤثر في عزيمته كل المؤامرات التي حيكت ضده وعائلته، أبرزها كان، محاولة توريطه في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، للنيّل منه، ودفعه الى التخلي عن دعم المقاومة، وعن العلاقة الأخوية مع سورية "قلب العروبة النابض"، فأبى لحود ذلك، وصمد حتى آخر دقيقة من عهده، في تشرين الثاني من العام 2007. هذا الرجل الذي قل مثيله، فهو قائد الجيش اللبناني، الذي رفض أوامر السلطة السياسية اللبنانية، بضرب المقاومة، في العام 1993، واتخذ قراره بالاستقالة من منصبه وقتذاك، من دون أن يقيم أي حساب لمستقبله السياسي، ولم يدفعه إلى هذا الموقف إلا ضميره الأخلاقي والوطني، ليس إلا. وفي الإضاءة على بعض تفاصيل "مؤامرة 1993"، فقد انصاعت السلطة المذكورة لقرارٍ خارجيٍ، يقضي بنشر الجيش في الجنوب، وفي طريقه استهداف أي "موقعٍ مسلح" هناك. وقال رئيس الحكومة في حينه لقائد الجيش: "بدك تحرق المسلحين بـ"lance- flamme"، وهي آلة تستخدم لحرق الحشيش". كذلك قال له وزير الخارجية وقتذاك: "بدك تمحي هودي لي مسمايين حالهم مقاومة". كذلك أكد له أركان الحكم في ذلك الوقت، أن "سورية تطلب منك ذلك". فكان جواب "فخامة المقاوم" حاسمًا: "فتشوا على قائد جيش غيري".
في التفاصيل أيضًا، دخل لحود مكتبه في وزارة الدفاع، فوجد مجموعة من الضباط متألقين حول الطاولة فيه، وعليها "خريطة انتشار عسكرية" للجيش في الجنوب، فضربها القائد بيده، وقال للحاضرين: "كفى مهزلة".
بعدها، غادر مكتبه، واتصل بزوجته، وقال: "سأستقيل من القيادة، وسأعوض على عائلتي عن أيامٍ قضيتها بعيدًا عمنهم".
إثر ذلك، وصل الخبر لأحد مساعدي الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، الذي أخبر أي (المساعد) بدوره، رئيسه، بما حدث في لبنان، عندها طلب الأسد، من القادة العسكريين في سورية، توجيه دعوة لقائد الجيش اللبناني، لزيارة عدد من المقرات العسكرية في دمشق، كرئاسة أركان الجيش، بعدها لقاء الرئيس السوري، فكان للأسد ما أراد، وعند لقائه بلحود، بادره بالسؤال: "لماذا رفضت أوامر ضرب المقاومة في لبنان؟"، فرد قائد الجيش اللبناني: "ضميري لا يطاوعني باستهداف شباب يقاتلون العدو الإسرائيلي، ويمكن لغيري أن يقوم بهذه المهمة"، ضحك الأسد، وقال للحود: "نحن نتابعك مذ كنت تلميذًا في الكلية الحربية، فوالدك الجنرال جميل لحود، عرف بمواقفه العروبية، عندما كان تلميذًا ضابط، في الكلية الحربية لجيش الشرق، في دمشق، في بداية ثلاثينيات القرن الفائت، فنحن كقيادة سورية معك، ويدنا ممدودة لك، فلا تبالِ".
وعاد لحود إلى بيروت، مرتاح الضمير، وسطّر في سجل تاريخ لبنان الذهبي، ملحمةً بطوليةً، تروي مسيرة قائد ورئيس مقاوم، دافع عن شرف بلاده وحقها، غير آبهٍ بكل الحرب الكونية- الداخلية المشتركة، التي شنت ضده، فبقي ثابتًا على مواقفه، شامخًا عزيزًا حرًا.