نقاط على الحروف

في زمن تتّحد فيه الوقائع مع البثّ الحيّ، وتتحوّل الكاميرا إلى شاهد لا يُمكن نكرانه، يبقى العالم الرسمي على موقفه المتجمّد، متفرّجًا على فصل من أكثر فصول الإبادة وضوحًا وبثًّا حيًّا في التاريخ الحديث. لا غرابة هنا، بل تكمن الغرابة في ظنّنا أن الحقيقة، مجرّدة وموثّقة، تكفي لاستدعاء ردّ الفعل الأخلاقي. ما يحصل في غزّة ليس مجرّد تكرار لمشاهد الرعب والدمار، بل هو اختبار حاسم لقدرة الهيمنة الإمبريالية على تطويع الضمير العالمي، وتأهيل الجمهور العالمي للعيش مع الرعب المُمنهج كجزء طبيعي من النظام القائم.
لقد كُسر وهم قديم: أنّ الصورة الصادمة كفيلة بتغيير المواقف، وأنّ بثّ المجازر كفيل بإيقاظ الضمير الإنساني. والواقع أن هذا الوهم نفسه كان منتَجًا إيديولوجيًا، صُمّم لتعزيز الأسطورة الليبرالية عن العالم "الحر"، المتحضّر، الرافض للعنف. لكن الحقيقة هي أنّ ما يُشاهَد الآن -أطفال يُحرقون، أجنّة تتعفّن في الحاضنات، نساء يجهضن تحت الركام، مستشفيات تُقصف عمدًا- يجري بتواطؤ واضح، وبمباركة مباشرة أو صامتة من أنظمةٍ تزعم تمثيل "القيم الغربية" والليبرالية و"النظام الدولي القائم على القواعد".
الإبادة بوصفها مشهدًا مُؤدلجًا
ما يحدث في غزّة ليس فقط مجازر مستمرة، بل مجازر يُعاد إنتاجها بصمت مقصود داخل بنية إعلامية عالمية تسهّل التساهل، وتروّج لمنطق التبرير، وتغسل الجريمة من دمها. الصورة هنا لا تُخفِي الحقيقة، بل تُعيد تشكيلها لصالح خطاب سلطويّ يُفرِّق بين البشر وفق تصنيفات استعمارية عنصرية قديمة: هناك ضحايا يستحقّون الحياة، وآخرون تجوز عليهم "الضرورة الأمنية".
فالمعضلة لم تعُد في غياب الأدلة، بل في قدرة المنظومة الغربية على تصفية تلك الأدلة أخلاقيًا: حين يُحرق الأطفال الفلسطينيون أحياء، لا يُقال إنّهم قُتلوا، بل "قضوا"، أو "توفّوا"، أو "تأثّروا بالقصف"، أو ربما اختفوا من التغطية تمامًا. هذه اللغة "الحيادية" لا تخلو من القصد، بل هي آلية لتجريد الجريمة من فاعلها، كما تفعل الإمبراطوريات عندما تعمد إلى صياغة ماضيها على هيئة أخطاء لا جرائم، وتغسل حاضرها من التورّط عبر تهذيب المفردات وتبريد الحواس.
الاحتلال ككيان فوق النقد
ما كان لحرب الإبادة أن تستمر بهذا الشكل لولا احتكارٍ غربيٍ شبه مطلق لسردية الحدث، وهيمنة "إسرائيلية" تفرض شروط التلقي والبثّ والتصنيف. فالطفل الفلسطيني لا يُقدّم للمتلقّي الغربي كضحية بل كمفارقة، مجرّد وجه آخر في "نزاع معقّد". أما الجنود "الإسرائيليون"، فهم "يدافعون عن وطنهم"، و"يحمون شعبهم" حتّى لو عبر التدمير الكامل لمدينة يسكنها مليون طفل.
ليست هذه مجرد دعاية، بل منطق سلطويّ متكامل: "إسرائيل"، بصفتها امتدادًا وظيفيًا للغرب في قلب الشرق، لا تُعامَل كدولة، بل كرمز مقدّس، محميّ من النقد، فوق القانون، وفوق الحقيقة. وهي -بهذه الصفة- لا تُحاسَب على أفعالها، بل يُبرَّر لها حتّى أكثر أعمالها بشاعة، ما دامت تنفّذ أهداف الإمبراطورية في المنطقة.
عندما يُفتعل الضحايا وتُهمَل الحقيقة
الانحياز الإعلامي ليس مسألة تغطية جزئية أو نقصان في المهنية؛ بل هو فعل واعٍ يتقصّد إعادة صياغة الضحايا. فكما جرى استخدام صور مفبركة لتبرير "محرقة 7 أكتوبر" المزعومة، تم تجاهل آلاف الصور والمقاطع الحقيقية التي تُظهر أجساد الأطفال الفلسطينيين وهم يُنتشلون من تحت الأنقاض، وأحيانًا يُنتشلون على دفعات، كما لو أنّهم كتلة واحدة، من الموت المتكرّر.
في المقابل، يُمنَح القتيل "الإسرائيلي" سرديّةً كاملة: اسمه، قصّته، صورته، صراخ أمّه، وتفاصيل ما كان يفعله قبل أن يُقتل. أما الطفل الفلسطيني، فيبقى صورةً ضبابية، أو رقمًا في تقرير، أو جثةً بلا ملامح. هذه ليست محض مصادفة. هذا هو منطق العنصرية المُؤسَّسية: محو ملامح الضحية، وإنكار فرديّتها، وتسويغ موتها كأمر طبيعي في "الشرق العنيف".
التواطؤ العربي وصناعة الحصار الأخلاقي
لا يقف الانحياز عند حدود واشنطن أو لندن أو باريس. فالتواطؤ الرسمي العربي هو جزء من آلية الحرب، ومن أدوات الصمت العام. أنظمةٌ تسكت، أو تهمس، أو تزايد لفظيًا لتخدير شعوبها، بينما تُبقي على أبواب الحصار موصدة، وتنسّق أمنيًا، وتشارك في كبح التضامن الشعبيّ حتّى لا ينقلب على البنية السلطوية نفسها.
هذا التواطؤ لا يُقاس فقط بعدد الشاحنات أو حجم الإغاثة، بل يُقاس بموقع الضمير، وبمقدار ما أُنجِز من ترويض شعوبٍ كاملة لتصبح شاهدةً بلا صوت، وعاجزةً بلا احتجاج. هذا هو الحصار الحقيقي: ليس الحصار الغذائي، بل الحصار الأخلاقي الذي تُفرض فيه على الشعوب حدود التضامن كما تُفرَض حدود الجغرافيا.
من الاعتياد إلى التحصين ضدّ الفظائع
مشكلة الإبادة المصوّرة في غزّة أنها لم تعد "استثناءً" بل باتت "قاعدة"، لا لأنّ وحشيتها قلّت، بل لأنّ التكرار نجح في إعادة برمجة المتلقّين. لقد جرى "تدريب" الجماهير عبر التكرار، على تقبّل الموت كصورة، والفظاعة كاعتياد، والمعاناة كروتين خبري. ومن خلال هذا الاعتياد، يتآكل المفعول الأخلاقي للصورة، ويتحوّل الرعب إلى ما يشبه الخلفية البيضاء لأيّ نشرة أخبار.
لكن هذه الحالة لم تأتِ من فراغ، بل نتيجة سنوات طويلة من تسطيح القضايا، وتفريغ القيم من مضمونها، وإعادة تعريف "الإرهاب" و"الإنسانية" و"العدالة" بما يتوافق مع مصالح الهيمنة الغربية.
استعادة التأثير: تفكيك الصورة وتحرير السرديّة
لكسر هذا الطوق، لا تكفي الصورة المجردة، بل ينبغي اختراق السرديّة الكبرى التي تُطوّع الصورة لصالح الجلاد. يجب إعادة تشكيل الوجدان العالمي عبر تقنيات سردية تُركّز على التفاصيل، على الأسماء، على القصص الفردية، على اللغة التي تستعيد الفاعل السياسي، وتُسمّي الجريمة باسمها، وتربطها بمن يقف خلفها.
ينبغي أن لا نكتفي بنقل المجازر، بل بكشف بنية النظام العالمي الذي يسمح بها، ويفرض الصمت حولها، ويوزّع مشاعر الحزن حسب الجغرافيا واللون والدين والانتماء السياسي.
من غزّة إلى ضمير العالم
لقد سقطت فرضية أن "الشفافية" كفيلة بكشف الجريمة وردعها. ما كشفته غزّة، مرّة أخرى، هو أن الشفافية من دون عدالة، هي مجرد آلية لتجميل الوحشية. وأنّ الصورة من دون تفكيكٍ للخطاب الاستعماري المحيط بها، تبقى حبيسة الإطار الذي رسمته الدعاية الغربية.
إنّ المهمّة ليست فقط "عرض" الفظائع، بل فضح التواطؤ الدولي الذي يُعيد إنتاجها، ويمنحها الغطاء، ويجعل منها مشهدًا متكرّرًا لا يحرّك ساكنًا. هي مهمّة نزع الحصانة عن الجريمة، وكسر امتياز الجلّاد، وإعادة الاعتبار للحقيقة، وللضحايا الذين لا تُعرض صورهم في الواجهات، لأنّهم لا ينتمون إلى "العالم المتحضّر".
ففي النهاية، ليس السؤال: لماذا لا يتحرك العالم؟ بل: أيّ عالم هذا الذي يسمح لنفسه بالتعايش مع هذه الوحشية كأنّها مجرّد خبر، أو مشهد عابر، أو هامش في نشرة أخبار؟