لبنان
العلوم الإنسانية في ظل التحول الرقمي: مؤتمر للجامعة الإسلامية بحث التحديات والتوصيات
المؤتمر الذي رعاه رئيس اتحاد الجامعات العربية بحث تأثير التحول الرقمي على سلوك الأفراد والتفاعل الثقافي والاجتماعي
افتتح المؤتمر التربوي، الذي تنظمه كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الجامعة الإسلامية، بعنوان "العلوم الإنسانية في ظل الأنظمة الرقمية"، برعاية وزير التعليم السابق المصري رئيس اتحاد الجامعات العربية الدكتور عمرو عزت سلامة، وبدعوة من رئاسة الجامعة الإسلامية في لبنان، في مجمع الوردانية الجامعي.
وحضر الافتتاح نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى العلامة الشيخ علي الخطيب ممثلًا بالعميد الدكتور غازي قانصوه، النائب أيوب حميد، علي عيسى ممثلًا النائب بلال عبد الله، رئيس الجامعة اللبنانية ممثلًا بالدكتور حسن زين الدين، المدير العام للتعليم المهني والتقني الدكتورة هنادي بري، مسؤول الاعلام الأمني في العراق اللواء سعد معن، الملحق الثقافي للسفارة العراقية في بيروت الدكتور بيان حوشي، المدير الإقليمي للوكالة الجامعية الفرنكوفونية في الشرق الأوسط الدكتور جان نويل باليو، مدراء عامون، رؤساء جامعات وعمداء ونقباء وحشد من الشخصيات التربوية والاجتماعية وممثلون عن القوى الأمنية.
كلمة عميد كلية الآداب في الجامعة الإسلامية
وتحدث عميد كلية الآداب في الجامعة الإسلامية الدكتور ناصيف نعمه، فقال: "نجتمع اليوم في مؤتمرنا هذا الموسم بعنوان: "العلوم الإنسانية في ظل الأنظمة الرقمية"، من أجل أن نعيد ترتيب العلاقة بين الإنسان وما ينتجه من معارف، وما إذا كان حوار الأدمغة البشرية والخوارزميات المعرفية قد بدأ من واقع افتراضي، اجتمع فيه عدد من علماء العالم من القارات الخمس دون أن يغادر أحدهم مقعده، ليعلن هؤلاء عن منصة تترجم الانفعالات الفكرية. وهم بذلك لم يغيروا العالم، بل أرادوا لنا فهمه بطريقة جديدة، لغتها الأرقام".
وتابع: "حتى أسماء الشوارع في أغلب مدن العالم – ومنها نيويورك – باتت أرقامًا، مقارنة بشوارع وأحياء ضيعتنا الجنوبية، التي تعرف بـ "حي السهل"، و"طلعة العريض"، و"ساحة العين"، و"حي البيدر"، و"طريق الساحة"... وكل حي له قصة، وكل بيت له تاريخ، وكل قفل له مفتاح، وفوق كل عتبة كتابات وآيات تحمل عبارات كـ "هذا من فضل ربي" و"ما شاء الله". إلى ما هناك من رمزية تتخطى لغة الأرقام، وتعبر إلى الأذهان والأمكنة والأزمنة".
وأضاف أن "هذا المؤتمر لا يقتصر على التخصصات الإنسانية، بل يتسلل في زمن متحول، ليعبر كل الاختصاصات، ويتابع الأحداث والمجريات، ويفتح الباب أمام سؤال إشكالي كبير، ألا وهو: "هل يمكن للرقمنة أن تخدم الإنسان دون أن تقصيه؟ هل نحن، وأنتم، من يصنع المستقبل، أم نسلم مفتاحه لصمت البرمجيات ضمن مساحة يتقاطع فيها الفكر العلمي مع الوعي الإنساني، ويصطف فيها الحرف إلى جانب المعادلات، لنصنع مستقبلًا أكثر اتزانًا، وعمقًا، وإنسانية؟. هل بات زمن الروبوتات يحل مكان أشهر المذيعات ومقدمات نشرات الأخبار؟ وبالتالي، فإن العلوم الإنسانية اليوم لا تنادي تخصص التقنيات والبرمجيات، بل تمنحها المبنى والمعنى والروح التي تشكل رؤية الإنسان لذاته وصفاته. بل إن من يفعل ذلك هو التاريخ مقرون بالذاكرة، والفلسفة مقرونة بالفكر، واللغة مسبوكة بالنثر والشعر وصياغة الجملة وجمالها وخطابها. كما الجغرافيا مرتبطة بسيادة الأوطان إذ تصان حين ندافع عنها في وجه أي احتلال أو اعتداء. كما النفس وعلومها حين تتجلى لعلاج القلق والاكتئاب والصدمات والإدمان، سعيًا لتعزيز الصحة النفسية، واستعادة لأساليب حياة متزنة".
وسأل "أي رهان على برمجيات لا تعرف الإحساس والعاطفة والأهواء، في فضاء مباح ومتاح لماديات وغايات تحوّل الإنسان إلى رقم مدمج ومبرمج؟!"، وأضاف "هنا أجدد القول: "إنه من المستحيل أن ندمج بين الحس الإنساني والبرمجة الإلكترونية، حيث يجب أن تبقى المساحة متاحة للمسات يصنعها الإنسان، أينما حل وأينما كان. ولتبق ذاكرتنا وتاريخنا وقراءاتنا تتحدث عن: عشق الأرض، معنى الكرامة والشجاعة والبطولة، الإيثار، والجار قبل الدار، ودردشات الأمهات اللواتي يجتمعن في صباحاتهن على فنجان قهوة، وتنور خبز، ومشاركة القطاف في مواسم الزيتون، ومحاكاة العيون الحزينة في زمن الآلام والشدائد والمحن".
وختم: "أيها الجيل من الطلاب، باتت المعرفة متاحة لكم أكثر من أي وقت مضى. فالقيم الإنتاجية أصبحت تركز على التفوق والابتكار. فكونوا صناع القرار، واعلموا أن الفهم والقدرة والتدريب هي دعائم أساسية في بناء مسيرتكم المهنية. فلا تجعلوا سيادة الفضاء الرقمي تأخذكم إلى بحر من الإغراءات لتحول منظومة القيم لديكم من الواجب إلى الرغبة، ولا تعيشوا الرهبة من تعلم ما هو جديد. شكرا لحضوركم ومساهمتكم في إنجاح فعاليات هذا المؤتمر. شكرًا لرئيس الجامعة الإسلامية الأستاذ الدكتور حسن اللقيس، الذي يبذل أقصى طاقته مع فريق العمل لمواكبة رفع شأن الجامعة، وتعزيز مسيرتها أكاديميًا ومهنيًا.على أمل اللقاء في مؤتمرات وورش جديدة".
اليسوعي
وألقى رئيس الجامعة اليسوعية الدكتور الأب سليم دكاش اليسوعي كلمة قال فيها: "بدايةً، أود أن أتقدّم بخالص الشكر والتقدير للجامعة الإسلامية في لبنان على تنظيم هذه الندوة العلمية الرفيعة المستوى حول مستقبل العلوم الإنسانية في زمن الذكاء الاصطناعي وقي ظل الرقمنة، وهو موضوع يطالنا جميعًا في عمق رسالتنا الأكاديمية والتربوية. كما يشرّفني أن أنقل إليكم تحيّات جامعة القديس يوسف في بيروت وشكرها العميق لدعوتها إلى هذا اللقاء الفكري، وأن أتوجّه بالامتنان الجزيل، لتفضّل الجامعة الإسلامية مشكورة بتكليفنا بإلقاء كلمة في افتتاح هذا المؤتمر العلمي الهادف".
وأضاف: "إننا نعيش تحوّلًا جذريًا في طريقة عملنا وتفكيرنا وتواصُلنا فالذكاء الاصطناعي لم يعد أداة هامشية بل بات قوة دافعة تعيد تشكيل معالم المهن والمهارات والوظائف في مجالات كثيرة منها الترجمة وعلم النفس وتعليم اللغات وعلم الاجتماع وعلوم التربية والتاريخ والجغرافيا".
وتابع اليسوعي: "إن الحديث عن الذكاء الاصطناعي ليس مجرّد نقاش تقني أو تربوي، بل هو دعوة صريحة إلى إعادة النظر في علاقة الإنسان بالمعرفة، وفي قدرة مؤسساتنا الأكاديمية على مواكبة التحوّلات المتسارعة في سوق العمل، وفي أدوات البحث، وفي طرق التعليم، بل وفي مفهوم الثقافة نفسه. وما نحتاج إليه اليوم، أكثر من أي وقت مضى، هو أن نُحسن التعامل مع هذه القوّة الجديدة لا من منطلق الخوف أو الانبهار، بل من منطلق التملّك الواعي والنقدي. من هنا نقول إن الذكاء الاصطناعي يجب أن يكون إلى جانبنا لا في مواجهتنا، وأن نضعه في متناول أيدينا، نحن الأساتذة والطلاب، في مختلف الحقول والاختصاصات، كأداة فاعلة إذا أُحسن استخدامها، لا كبديل عن التفكير أو عن الإبداع أو عن الخبرة الإنسانية المتراكمة".
وأردف: "هذه الدعوة لا تكتمل إلا بشرط أساسي، وهو أن تُفكّر كلّ جامعة في وضع إطار أخلاقي صارم ومستنير لاستخدام الذكاء الاصطناعي في التعليم، والبحث العلمي، والتأليف، والإنتاج، والتقييم. فلا يكفي أن نثق في أدوات الذكاء الاصطناعي، بل يجب أن نربي الأجيال على التحليل النقدي العقلاني والمنهجي، وعلى التمييز بين ما هو آلي وما هو أصيل، لأن الذكاء الاصطناعي، مهما تطوّر، يبقى عاجزًا في كثير من الأحيان عن إدراك العمق الثقافي، والتعقيد الرمزي، والمعنى التاريخي، والبعد القيمي الذي تُجسّده العلوم الإنسانية. وانطلاقًا من هذا الوعي، تصبح مراجعة البرامج الجامعية وإصلاحها في مختلف الحقول المتأثرة بالذكاء الاصطناعي، واجبًا لا بد منه على جميع المتخصصين والمهندسين التربويين في جامعاتنا، لكي نعد خريجين قادرين على التكيف بسرعة مع تطوّرات السوق، بل على الريادة في صياغة الحلول وتوليد الابتكار".
وقال اليسوعي: "في مجال الترجمة، لم يعد من الممكن الاكتفاء بتعليم تقنيات تقليدية في النقل بين اللغات، بعيدًا من المستجدات التكنولوجية التي فرضها الذكاء الاصطناعي. فقد بات لزامًا علينا أن نُدرّب طلاب الترجمة على استعمال أدوات الترجمة بمساعدة الحاسوب (CAT Tools)، مثل ذاكرات الترجمة، وأنظمة التعريب الآلي، والبرمجيات القائمة على التعلم الآلي. لكن الأهم من ذلك، هو أن نُنمّي لديهم القدرة على تقييم النصوص المنتَجة آليًا من حيث دقتها اللغوية، وسلامتها المعنوية، ومدى توافقها مع السياق الثقافي للمقصد. فالترجمة ليست مجرّد تحويل لغوي، بل هي فعل تواصلي وثقافي يتطلّب وعيًا عميقًا بالأبعاد التاريخية والاجتماعية للنص، وهي جوانب لا تستطيع الآلة أن تُحسن إدراكها من دون تدخل بشري نقدي ومبدع. وهنا تبرز أهمية تعليم مهارات تحرير ما بعد الترجمة الآلية (Post - editing)، والتمييز بين ما يمكن قبوله وما يتطلب إعادة إنتاج كاملة".
وأضاف: "أما في علم النفس، فإن العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا أصبحت موضوعًا بحثيًا في حد ذاته. ولذلك، ينبغي أن تنفتح المناهج على تحليل أثر الذكاء الاصطناعي على السلوك البشري، وعلى التطبيقات العلاجية الرقمية، مثل الروبوتات المعالجة، والأنظمة الذكية الداعمة للصحة النفسية، والتطبيب عن بعد. وفي الوقت نفسه، لا بدّ من تعزيز الجانب الإنساني العيادي، لأن العلاقة الإكلينيكية تبقى في جوهرها علاقة تفاعلية مع إنسان يُعاني ويحتاج إلى تعاطف حقيقي، لا إلى استجابة خوارزمية باردة. من هنا، يصبح التوازن بين التحليل الرقمي والتشخيص الإنساني ركيزة من ركائز التكوين في علم النفس الحديث".
وتابع: "في علوم التربية، تفرض الثورة الرقمية علينا دمج مفاهيم جديدة في البرامج التعليمية، من مثل التعليم التكيفي الذي يستجيب لاحتياجات المتعلّم الفردية، والتعلّم المدمج الذي يجمع بين الصف الواقعي والمنصّات الذكية، والتربية الرقمية التي تُربّي على المواطنة الرقمية، والحضور الأخلاقي في الفضاءات الافتراضية. كما يُعدّ تعليم أخلاقيات استخدام الذكاء الاصطناعي في الصفوف ضرورة ملحّة، من حيث وعي الطلاب والمعلمين للحدود الفاصلة بين التعلّم المستند إلى الذكاء الاصطناعي، والتعلّم التفاعلي القائم على الفهم العميق والتفكير النقدي".
وأردف اليسوعي: "في ما يخصّ علم الاجتماع، فإن الأدوات الكلاسيكية لتحليل المجتمع أصبحت محدودة أمام ما يوفّره الذكاء الاصطناعي من إمكانات لتحليل "البيانات الكبرى" (Big Data)، واستكشاف الأنماط السلوكية، ومراقبة الديناميات الاجتماعية على شبكات التواصل. ولكنّ ذلك يحمل في طيّاته خطرًا جديدًا يتمثّل في تشكّل الرأي العام وبناء الهويات من خلال الخوارزميات، مما قد يؤدي إلى "فقاعات معرفية" أو تكرار أنماط التفكير المهيمنة. لذا يجب أن نُعلّم الطلاب أدوات تحليل نقدية لا تكتفي بقراءة النتائج، بل تتساءل عن كيفية إنتاجها، وعن القوى التي توجهها، وعن العدالة الرقمية الغائبة في كثير من الأحيان عن هذه البيئات".
وقال: "أما في مجالي التاريخ والجغرافيا، فقد دخلنا عصر "الإنسانيات الرقمية" (Digital Humanities)، الذي يتيح استخدام أدوات رقمية متقدّمة لتحليل الوثائق، ورسم الخرائط التفاعلية، والنمذجة التاريخية. لكن هذه الأدوات، على أهميتها، تحمل معها تحديًا خطيرًا هو التزييف المحتمل للذاكرة التاريخية، والانزلاق نحو سرديات مصطنعة تُنتجها الخوارزميات بناءً على انتقائية في البيانات. لذلك يجب أن يُربّى طلاب التاريخ والجغرافيا على "أخلاقيات التأريخ الرقمي"، وعلى استخدام الذكاء الاصطناعي كأداة لا كمصدر نهائي للمعرفة، وعلى التحقّق الدقيق، والقراءة النقدية، والتوثيق العلمي الصارم، من هنا فإن إصلاح البرامج الجامعية في هذه التخصصات لم يعد خيارًا بل ضرورة قصوى لكي تُواكب تحولات الواقع وتمكّن خرّيجينا من التكيّف والتميّز في سوق عمل متقلّب ومليء بالتحديات".
وأضاف: "أما في تعلّم اللغات، فعلينا تطوير المناهج لتشمل التعامل مع تطبيقات الذكاء الاصطناعي في الترجمة الفورية، المحادثات التفاعلية، وتوليد النصوص، مع التركيز على تنمية الحسّ الثقافي والبلاغي الذي لا تستطيع البرامج الذكية محاكاته بدقة".
وأوضح اليسوعي: "العلوم الإنسانية تلعب دورًا حاسمًا في عصر الذكاء الاصطناعي وسوف تكون حيوية إن أحسنّا التكيف معها، وذلك لأسباب جوهرية عدة، من أبرزها:
١. فهم الإنسان
تُعنى العلوم الإنسانية (كالفلسفة، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، والتاريخ...) بفهم الإنسان وسلوكياته وقيمه ودوافعه. ونظرًا لأن الذكاء الاصطناعي يُطوَّر بواسطة الإنسان ومن أجله، فإن أي تقنية قوية لا تقوم على فهم عميق للإنسان قد تؤدي إلى إنحرافات خطيرة.
٢. الأخلاقيات والمسؤولية
يثير الذكاء الاصطناعي أسئلة أخلاقية كبيرة: مثل الانحياز الخوارزمي، والمراقبة الشاملة، والتمييز، واستقلالية الآلات... وهنا تصبح الفلسفة الأخلاقية والقانون وعلم الاجتماع ضرورية لوضع أطر تُوجّه استخدام هذه التكنولوجيا بطريقة عادلة ومسؤولة.
٣. الفكر النقدي
أمام القوّة التقنية المتسارعة للذكاء الاصطناعي، من المهم الحفاظ على الفكر النقدي الذي تعلّمه العلوم الإنسانية. وهذا يمنعنا من القبول الأعمى بالقرارات الآلية أو من الوقوع في نزعة تقنية مفرطة.
٤. الحوار بين التخصصات
لا ينبغي أن يُترك تطوير الذكاء الاصطناعي للمهندسين وعلماء الكمبيوتر وحدهم. فالتقدّم الحقيقي يحتاج إلى حوار بين التخصصات: بين العلوم الإنسانية، والعلوم الاجتماعية، والعلوم الدقيقة، من أجل تطوير تكنولوجيا أكثر عدالة، وشمولًا، وانخراطًا في الواقع البشري.
٥. الإبداع والثقافة
قد يستطيع الذكاء الاصطناعي إنتاج نصوص أو موسيقى أو صور، لكنّه يفتقر إلى الثقافة والوعي. أما العلوم الإنسانية فتهتم بـالمعنى، والذاتية، والخلق الفني، وتساعدنا على فهم ما يجعل الإنسان فريدًا بحق، بما يتجاوز قدراته الحسابية".
وأشار اليسوعي إلى أن "العمل على هذا الإصلاح لا يتم إلا بتعاون وثيق بين الأكاديميين والاختصاصيين في المناهج ومهندسي البرامج الجامعية، لوضع تصوّر حديث يأخذ في الاعتبار التحوّلات الرقمية من دون أن يفرّط في القيمة الإنسانية والفكرية التي تُشكّل جوهر هذه العلوم"، وقال: "إننا اليوم ننتظر بكثير من الاهتمام والحماسة ما سيخرج به هذا المؤتمر من توصيات بنّاءة تُساعد جامعاتنا ومؤسساتنا على إعادة رسم خارطة طريق معرفية وتربوية تكون أكثر استعدادًا لمواجهة التحديات المقبلة ولإعداد أجيال قادرة على قيادة التغيير لا الركض خلفه".
اللقيس
ثم تحدث رئيس الجامعة الإسلامية الدكتور حسن اللقيس فقال: "شرفنا رئيس اتحاد الجامعات العربية الأستاذ الدكتور عمرو سلامة برعايته الكريمة وحضوره هذا المؤتمر التربوي الذي تنظمه الجامعة الإسلامية في لبنان - كلية الآداب والعلوم الإنسانية بعنوان "العلوم الإنسانية في ظل الأنظمة الرقمية"، ويأتي هذا المؤتمر ترجمة للخطة الإستراتيجية للاتحاد 2020 - 2030 التي أطلقها الأمين العام والتي أراد من خلالها أن تواكب الجامعات العربية التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي والبرمجيات المتقدمة وقواعد البيانات من أجل تحقيق استجابة نوعية متوازنة بين الإمكانيات المتاحة والمتطلبات العصرية، لتحقيق أهداف التنمية المستدامة لجامعاتنا ومجتمعاتنا العربية". وأضاف "لأن تحقيق الأهداف المرجوة لا يكون إلا من خلال التعاون بين الجامعات في ما بينها وبين الجامعات من جهة والوزارات والإدارات العامة والمؤسسات المعنية من جهة أخرى، كان المؤتمرون المشاركون معنا اليوم، بهذا المستوى المتقدم والمشرف من الكفاءات الأكاديمية والمهنية الفرنسية والعربية واللبنانية لأن الجامعة الإسلامية في لبنان كانت وستبقى جامعة لكل الوطن".
وتابع اللقيس: "إن تنوع عناوين ورش عمل المؤتمر والمداخلات، تؤكد أن مواكبة التكنولوجيا والرقمنة والذكاء الاصطناعي لا تقتصر على اختصاصات جامعية محدّدة كتلك المرتبطة بإدارة الأعمال أو علوم الحاسوب، بل أن التاريخ والجغرافيا واللغات وغيرها من العلوم الإنسانية يمكنها أيضًا إحداث ثورات رقمية في مناهجها، لكن ذلك لا يكون إلا من خلال أصحاب الاختصاص للحفاظ على روحية هذه العلوم والأنسنة التي تتميّز بها. لذلك، فإننا نعول على المداخلات القيمة للأساتذة المؤتمرين، وعلى التوصيات التي ستصدر عن ورش العمل المتنوعة للاستفادة منها في تطوير المناهج الجامعية، علنا نستطيع أن نعيد للعلوم الإنسانية مكانتها الأكاديمية وجاذبيتها لجيل الذكاء الاصطناعي".
راعي المؤتمر
ثم ألقى راعي المؤتمر الدكتور عمرو سلامة فقال: "يسعدني ويشرّفني أن أشارككم في هذا المؤتمر التربوي النوعي الذي تنظّمه الجامعة الإسلامية في لبنان تحت عنوان: "العلوم الإنسانية في ظل الأنظمة الرقمية"، بمشاركة نخبة من الجامعات اللبنانية والعربية والدولية، في وقتٍ تتسارع فيه تحوّلات الثورة الصناعية الرابعة، وتتشكّل ملامح الخامسة التي تُعيد الاعتبار للإنسان في قلب التكنولوجيا، وللقيم في صلب التطوير التقني".
وأضاف "أن انعقاد هذا اللقاء العلمي في لبنان – البلد العريق في رسالته الثقافية وريادته الفكرية – يؤكد من جديد أن الجامعات لم تعد مجرّد مؤسسات تعليمية، بل تحوّلت إلى مؤسسات إستراتيجية تضطلع بدور محوري في تشكيل وعي الأجيال، وتربط التخصصات، وتتصدّى لتحديات عصر رقمي لا مكان فيه للمعرفة التقليدية ما لم تنخرط في صياغة التحوّلات وتسهم في توجيهها".
وتابع سلامة: "أؤكد حقيقة جوهرية، مفادها أن العلوم الإنسانية ليست ترفًا فكريًا كما قد يُتصوَّر، بل هي ضرورة حضارية لا غنى عنها، حيث شكّلت العلوم الإنسانية، على مدى عقود، المرجعية الأساسية للفكر النقدي والقيم الإنسانية، وأسهمت في بلورة مفاهيم الهوية، والمعنى، والأخلاق. إلا أنّها اليوم تواجه تحديات جديدة فرضها التحول الرقمي المتسارع، الذي غيّر من طبيعة المعرفة، وسلوك الأفراد، وأشكال التفاعل الثقافي والاجتماعي. وفي هذا السياق، نحن لا نعيد النظر في جدوى العلوم الإنسانية أو ضرورتها، بل على العكس، نسعى إلى تجديد أدواتها وتحديث مناهجها، لتكون أكثر فاعلية في زمن الذكاء الاصطناعي، وتحليلات البيانات، والتقنيات التفاعلية متعددة الوسائط".
وأوضح سلامة "العلوم الإنسانية هي التي تضفي البعد الإنساني على التكنولوجيا، وتمنع اختزال الإنسان إلى مجرد رقم أو أداة تشغيل في عالم تقوده الخوارزميات. وعليه، فإن دمج العلوم الإنسانية في بيئة التعليم الرقمي لا يعني تهميشها أو تقليص دورها، بل يفرض علينا توسيع نطاق تأثيرها عبر تطوير مناهجها، وتحديث أساليب تدريسها، والاستفادة من أدوات الذكاء الاصطناعي لتحليل النصوص، ودراسة الأنماط الثقافية، وتعزيز التفكير النقدي لدى الطلاب، بما يجعلها أكثر تفاعلًا مع تحديات العصر وأكثر حضورًا في تشكيل وعي المستقبل".
وتابع: "لعل من المهم في هذا السياق أن نُشير إلى بعض المؤشرات الرقمية التي تعكس طبيعة التحدّي الذي نواجهه حيث تشير تقارير الاتحاد الدولي للاتّصالات لعام 2024 إلى أن نحو 68% من سكان العالم يستخدمون الانترنت، أي ما يعادل حوالي 5.5 مليار مستخدم. كما تفيد الدراسات بأن أكثر من 45% من فئة الشباب يعتمدون على الانترنت كمصدر رئيسي لاكتساب المعرفة، بما في ذلك مجالات الثقافة والتاريخ. وهذا يُحمّلنا مسؤولية جماعية تتمثل في إنتاج محتوى رقمي موثوق، يعكس خصوصيتنا الحضارية، ويجسّد قيمنا الثقافية، لضمان حضور هادف في الفضاء الرقمي العالمي. وبرز خلال السنوات الأخيرة ما يعرف بـ"الإنسانيات الرقمية"، التي تمزج بين التحليل الثقافي والتقنيات الحديثة، مثل مشروع Europeana الأوروبي، الذي رقمن أكثر من 50 مليون وثيقة، ومبادرات عربية واعدة كـ: مكتبة قطر الرقمية، ومكتبة الإسكندرية، والذاكرة الفلسطينية والسورية، ومكتبة الأردن، والأرشيف العربي في الإمارات. وهي كلها مشاريع تحفظ التراث الثقافي وتقدّمه بشكل عصري وفعّال".
وأردف سلامة: "في هذا السياق، يدعم اتحاد الجامعات العربية هذا التوجّه من خلال مركز الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي، الذي يُعنى بتطوير القدرات الرقمية، وتقديم برامج تدريبية، وتشجيع الأبحاث البينية التي تدمج التكنولوجيا بالعلوم الإنسانية. كما يقدّم الاتحاد سنويًا جائزة أفضل أطروحة دكتوراه في العلوم الإنسانية والاجتماعية، دعمًا للفكر النقدي والمعرفة المتجددة. لقد بدأت كبرى شركات التكنولوجيا ومجالس أخلاقيات الذكاء الاصطناعي الاستعانة بخبراء الفلسفة والاجتماع والتاريخ، لإدراكها أن التكنولوجيا لا يمكن أن تنفصل عن القيم والهوية. وأظهر تقرير هارفارد (2022) أن الإفراط في استخدام التقنيات الرقمية يُضعف التفكير النقدي، وفي السياق ذاته، كشف تقرير اليونسكو (2023) أن 90% من المؤسسات التعليمية في الدول المتقدمة تستخدم الذكاء الاصطناعي في التعليم، مقابل 35% فقط في العالم العربي، ما يؤكد وجود فجوة رقمية وأخلاقية تتطلب معالجة عاجلة".
وقال: "لذلك، نحن بحاجة إلى إعادة هيكلة المناهج الإنسانية لتشمل مهارات التفكير النقدي، وأخلاقيات التكنولوجيا، والتواصل المتعدد الوسائط، والتربية الرقمية، كي تكون هذه العلوم قادرة على قيادة التحول الرقمي، لا مجرد معارضته ومقاومته. ولا يمكننا الحديث عن العلوم الإنسانية من دون التوقف عند اللغة العربية، التي تُعدّ وعاء الفكر وركيزة الهوية الثقافية. رغم أننا نشكل أكثر من 5% من سكان العالم، فإن المحتوى الرقمي العربي لا يتجاوز 1% من إجمالي المحتوى العالمي، وهو تحدٍّ يدعونا إلى تعزيز حضور لغتنا في الفضاء الرقمي، وفي مؤسسات التعليم العالي، بما في ذلك التخصصات العلمية والتقنية، لأن التعليم بلغة الأم هو الأساس لأي نهضة معرفية حقيقية".
وأشار إلى أن "التقدم التكنولوجي هو ثمرة فكر الإنسان وإبداعه، وهو ما يزيد من حاجتنا إلى علوم إنسانية رقمية تُفكر، تُحلل، وتُوجّه هذا التطور نحو خدمة القيم الإنسانية"، داعيًا إلى "إطلاق مبادرة عربية مشتركة لتطوير منصة رقمية متخصصة في الإنسانيات الرقمية، بشراكة بين الجامعات ومراكز البحوث والمكتبات الوطنية، تجمع جهود الباحثين والوثائق والمصادر، لتعزيز التبادل الثقافي وبناء وعي رقمي عربي أصيل".
ةأضاف سلامة: "تبقى العلوم الإنسانية حجر الزاوية لبناء مستقبل أخلاقي وإنساني في ظل الثورة الرقمية. وستظل صوت الضمير في عصر الذكاء الصناعي، ورمزًا للإنسانية في زمن الرقمنة. وتقع على عاتق الجامعات العربية مسؤولية تطوير هذه العلوم، ليس فقط للحفاظ على الهوية، بل لتأطير التحولات، وفهم الإنسان في عالم سريع التغير".
وتابع سلامة: "باسم اتحاد الجامعات العربية، أؤكد دعمنا لكل جهد يسعى إلى تكامل الإنسان والتكنولوجيا، وإلى إعادة الاعتبار للغة والهوية والمعرفة في ظل الأنظمة الرقمية. أكرّر شكري للجامعة الإسلامية في لبنان، ممثلة برئيسها الأستاذ الدكتور حسن اللقيس، على تنظيم هذا المؤتمر المميز. كما أشكر الباحثين والمشاركين والقائمين عليه، وأتطلع إلى نقاشات ثرية ومثمرة تُسهم في تجديد العلوم الإنسانية وتوجيهها نحو خدمة الإنسان العربي والعالم أجمع".
وبعدها تم تقديم الدروع التقديرية.