نقاط على الحروف

وكأنّي بهم ساعة تلقّي الخبر كتموا شهقة الصدمة، وسارع كلّ منهم إلى سؤال الآخرين إن كان الأمر حقيقة أم مجرّد إشاعة؟ ليس سهلًا على المرء أن يبيت ليلته وهو يهدّد ويتوعّد باقتراب موعد زيارة أورتاغوس إلى لبنان، بانيًا جميع مشروعه السياسي على الوعيد بسيف صهيونيتها الواضحة و"إسرائيليّتها" الحادّة، أن يستفيق على خبر تنحيتها عن متابعة الملف اللبناني. ولذلك، وجبت الرأفة على العاملين كافة في كنف عوكر هذه الأيام، والذين من شدّة انبهارهم بأورتاغوس ورهانهم عليها، سقطوا عن صهوة الكرامة الوطنية بلا رجعة.. وهنا؛ لا مفاضلة بين مبعوث أميركي وآخر، فجميعهم واحد مهما اختلفت الأسماء، إنّما مشهد "أيتام عهد أورتاغوس" وقد ربط الخبر ألسنتهم بعد أن جعلوها سياطًا تلذع باسم غاليتهم وسيّدتّهم ومشغّلتهم: مورغان أورتاغوس.
منذ زيارتها الأولى إلى لبنان؛ حرصت المنحّاة أورتاغوس على ممارسة تحقير السيادة اللبنانية بكلّ الوسائل، فتعمّدت إحراج العاملين بخدمتها وخدمة سفاراتها ودولتها، بشكل حجب عنهم حتى مقدرة الجمهور على احترام شخصيّاتهم. عبّرت عن صهيونيتها بأريحية بالغة، ومن على منبر قصر بعبدا صرّحت بالشكر لـ"إسرائيل" على عدوانها ونتائجه، وتحدّثت عن رفضها لمشاركة حزب الله في الحكومة التي لم تكن قد تشكّلت بعد ما دفع بمكتب رئيس الجمهورية إلى إصدار بيان يؤكّد فيه أنّه غير معنيّ بما قالته أورتاغوس.
إنّ هوَس التحقير والعنجهية عند أورتاغوس لم يقف عند حدّ، فأساءت إلى الجيش اللبناني، عبر صورة تناقلتها وسائل الإعلام جمعتها مع ضابط وصاروخ مُصادَر من ذخيرة المقاومة، فعبّرت وكأنها تقوم بتقييم تنفيذ الجيش لرغباتها، وحتى عبر المنصات الافتراضية، مارست هوسها ذاك بالتعرّض لزعيم لبناني هو وليد جنبلاط بطريقة سوقية محترفة. استدعت إليها وزراء ونواب، وتهافتوا إلى تلبية الدعوة، مسرورين فرحين بنيلهم هذا الشرف العظيم.. وا حسرتاه؛ لا على الأعراف الدبلوماسية التي تحطّمت تحت قدميها فحسب، أيضًا على هيبة "ذوي المناصب" الذين استحالوا في حضرتها مجرّد خدم لرغباتها الدبلوماسية، ومنفذين بلا اعتراض لتوجيهاتها مهما غالت في صهيونيتها.
هذا قليل من كثير ممّا ارتكبته المبعوثة الأميركية مورغان أورتاغوس، في مدة زمنية قصيرة نسبيًا. وعلى الرغم من كلّ الوضوح والصراحة التي مارست فيها عدوانها على كرامة البلد وسيادته، لم تجد في فريق الانبطاح السيادي فردًا يتجرّأ على الاعتراض، ولو في سرّه على هذا الأسلوب التحقيري المشهود، أو على المطالبة أقلّه بأن تتظاهر "السيدة الأميركية" باحترام البلد ومستخدميها فيه. على العكس، آثروا التباهي بمعرفتها، بشرف التقرّب إليها بالتعبير عن انبطاح أكثر، وجهوزية أكبر لتقديم المزيد من التذلّل.. ولأنّ المعايير المتعلقة بالسيادة والشرف الوطني انقلبت مع هؤلاء المساكين، بدا مثيرًا للشفقة والتقزّز في آن، أن ترى الأبواق منهم يباهون بتذلّلهم هذا: صاروا يهدّدون بسيف أورتاغوس، يضعون جداول زمنية لنزع سلاح المقاومة، على حدّ تعبيرهم، فبرأيهم الأمر بات واقعًا، وسندهم في واقعيّته أن مورغانهم هذه قد أمرت به!
غادرت أورتاغوس الملفّ اللبناني إذًا، وضاع تعب الذين كتبوا فيها غزلًا وتشبثّوا بنعال مواقفها على أساس أنّها أحكام مبرمة.. حتى يكاد أحدهم أن يعبّر صراحة عن اعتقاده أنّ الأرض تدور بأمرها، وأنّها قبل أن تطلب، فالطلبات أوامر، وإن رغبت، فالرغبات مستجابة. سيتحتّم عليهم الآن البدء بإعداد استراتيجيات انبطاح جديدة لخلفها، والذي ما يزال حتى الساعة مجهولًا.
تجدر الإشارة إلى أنّ بيت الحزن، والذي فُتح في صدور مستخدمي عوكر في لبنان، قابله بيت مشابه في "إسرائيل"، فهناك أيضًا غصّ الصهاينة بالنبأ، فمورغان غاليتهم أيضًا، مع علمهم أنّ خلفها بالطبع لن يكون مختلفًا عنها بحقّهم، لكنّها القلوب وما تهوى. ويبدو أن هوى أورتاغوس قد جمع بين "إسرائيل" والمنبطحين اللبنانيين، فكان حزنهم واحد، والصدمة من وقع الخبر متشابهة.
وداعًا يا مورغان، من سيتزّين الآن بنجمة داوود، قلادة أو خاتمًا، حين يزور لبنان؟ من سيتهادى على الأرض اللبنانية محقّرًا سيادتها ومعتديًا عليها بكل كلمة وموقف؟ من سيستدعي إلى محضره وزراء ونواب وإعلاميين كي يخبرهم بما عليهم فعله كسياديين؟ من بعدك سيمارس رذيلة انتهاك الكرامة الوطنية بهذا المقدار من الوقاحة والصلافة؟ هل لديكِ أدنى فكرة عن الإرباك الحاصل، في صفوف مستخدمي عوكر، من مختلف المناصب والرتب؟ فهم لا يدرون كيف سيتابعون مع خلفك، قد تكون تكتيكاته مختلفة مثلًا، أو قد يكون أكثر ذكاء في ممارسة العدوان على البلد؛ فيدّعي احترامًا وهميًا لأسس العمل الدبلوماسي ما يُضطرهم لتغيير مفرداتهم ومصطلحاتهم.. هل تعلمين مقدار الغصّة التي تملأ حلقهم وهم قبل ليلة واحدة فقط كانوا يتشدّقون باسمك ملء أفواههم الجائعة لاسترضاء بلادك؟ بأيّ قلب "خليتي" بهم هكذا وتركتهم في مهبّ الحيرة والحرج..؟! ولا سيّما أنّهم لا يمتلكون ترف الوقت لاستيعاب الصدمة والإعداد للمرحلة القادمة، حالهم كحال أيّ مستخدم يتغيّر مشغّله فجأة، سيربكه الأمر، وينغّص عليه أيامه بانتظار الوجه الجديد والمتطلبّات التي قد تتغيّر..
بكلّ الأحوال يا مورغان المنحّاة، أوصِ خلفك بألّا يصدمهم باظهار احترام مزيّف لهم، فقد اعتادوا الذلّ والتذلّل في حضرتك، ولا شيء أصعب على المرء من تغيير عاداته، إذ يقول مثل شعبي في بلادنا "من غيّر عادته قلّت سعادته".. أوصه بتحقيرهم في كلّ مناسبة، بالتصرّف معهم بالصلافة نفسها التي اعتمدتِها، باستدعائهم إليه من دون زيارتهم، بتلقينهم علانية ما يقولون ويفعلون.. أوصِه أن يكون مثلك معهم، عساه يعوّض عليهم خسارتهم الفادحة الفاضحة.. عساه يهوّن عليهم ألم فقدك.
وداعًا يا ذات الكعب العالي الذي أسر تحته كرامات وسيادات اعتادت الذلّ والانبطاح، يا ذات الوجه الحسن الذي من هول قبح سيماه أسهم في تظهير قبح بلاده ودمامة عملائها.. وداعًا يا النّصل الذي اعتمد عليه الأذلاء كي يحزّ وريد المقاومة، ثمّ تنحّى..