مقالات

مقدّمة: من الهيمنة إلى التَّحرُّر
منذ نشأة الكيانِ التَّوسُّعيِّ عام 1948، سعت قوى الاستكبارِ العالميِّ إلى ترسيخِ وجودِه كأداةٍ إستراتيجيّةٍ لضمان نُّفوذها وسيطرتها في قلبِ العالمِ العربيِّ والإسلاميّ، خاصّةً بعد سقوطِ نظامِ الانتدابِ عقبَ الحربِ العالميّةِ الثّانية.
كان بمنزلةِ رأسِ جسرٍ للمشاريعِ الغربيّة، وغُدَّةٍ سَرَطانيّةٍ مزروعةٍ في وسطِ الجغرافيا العربيّة، ولطالما عُدَّ لبنان، بحكمِ موقعِه بين "الفُراتِ والنِّيل"، من أهمِّ ساحاتِ الصِّراعِ لخدمةِ المصالحِ “الجيوسياسيّةِ” والاقتصاديّةِ لهذا المشروع.
وفي 25 أيّار 2000، شهدَ لبنان حدثاً مفصليّاً، انسحابَ جيشِ الاحتلالِ من الجنوبِ تحتَ وَقعِ ضرباتِ المقاومة، مُنهِياً أكثرَ من عقدَين من الاحتلال.
لم يكن الأمرُ مجرَّدَ انسحابٍ عسكريٍّ تقنيٍّ، بل نقطةَ تحوُّلٍ “إستراتيجيّةٍ” كُبرى أنهت ما يُعرَفُ بـ"العصرِ الإسرائيليِّ" في لبنان، أي مرحلةِ الهيمنةِ الأمنيّةِ والسِّياسيّةِ التي فرضَتْها “تل أبيب” على القرارِ اللبنانيِّ والسّيادةِ الجنوبيّة.
هزيمةُ المشروعِ الإسرائيليِّ في لبنان
منذ اجتياحِ 1978، حاولت "إسرائيل" ترسيخَ واقعٍ جديدٍ في جنوبِ لبنان، عبر إنشاءِ "حزامٍ أمنيّ"، ودعمِ ميليشياتٍ عميلةٍ، وتقويضِ إحدى دعاماتِ الدولةِ اللبنانيّة من الداخلِ بشقِّ جيشها وتحويلِ بعضِه إلى قوىً عسكريّةٍ تحمي الاحتلال.
الهدفُ كان واضحاً، خلق منطقة عازلة تحمي حدودَها الشماليّة، وتمنحُها نُفوذاً دائماً داخلَ لبنان. لكنّ هذا المشروعَ فشِلَ في ترسيخِ استقرارٍ دائمٍ وقبولٍ وطنيّ. بل فجَّرَ مقاومةً شعبيّةً أخذَتْ بالتَّطوُّرِ والتَّنامي والتَّنظيم، حتّى تحوَّلت إلى قوّةِ ردعٍ أربكَتِ الحساباتِ "الإسرائيليّة"، وراكَمَتْ خبراتٍ قتاليّةٍ نوعيّةٍ أثبتَتْ فاعليّتَها في معاركِ التّسعينيات.
الانسحابُ دونَ مفاوضات: سابقةٌ تاريخيّةٌ ومؤشّرُ التَّحوُّل
فشلت كلُّ الجهودِ الدّبلوماسيّةِ اللبنانيّةِ والدّوليّةِ، التي استندَتْ إلى قرارِ مجلسِ الأمنِ 425 عام 1978، في إرغام الكيانِ الغاصبِ على الانسحابِ دون قيدٍ أو شرط. فلم يكن الانسحابُ بإرادةٍ دبلوماسيّة، بل بإرادةِ المقاومة؛ فجاء الانسحابُ عام 2000 دونَ مفاوضاتٍ أو اتّفاقات، ودونَ ترتيباتٍ أمنيّة، بل كفرارٍ مُرتَبِكٍ وفوضويٍّ، بعد تخلّي جيشـ الاحتلالِ عن ميليشياتِه العميلة التي كانت تنتظرُ الانسحابَ "بشرف"، فخرجوا دون شرف.
لم يكنْ الانسحابُ خياراً سياسيّاً وإستراتيجيّاً طَبيعيّاً، بل هروباً من استنزافٍ طويلِ الأمدِ غيرِ قابلٍ للمعالجة. تحولت البيئةُ الجنوبيّةُ إلى أرضٍ طاردةٍ للوجودِ "الإسرائيليّ"، والخسائرُ البشريّةُ والمجتمعيّةُ في صفوفِ الاحتلالِ كانت كفيلةً بكسرِ قدرته على البقاء. كما مثّلَ الانقسامُ داخلَ المجتمعِ "الإسرائيليّ" عاملاً إضافيّاً دفعَ نحوَ الانسحابِ الفوضويّ.
معادلة ردع جديدة: قوة لبنان في مقاومته
تحريرُ الجنوبِ لم ينهِ وجودَ "إسرائيلَ" العسكريّ فقط، بل أعادَ رسمَ معادلاتِ القوّةِ في المنطقة، ولم يكنْ نهايةً للمواجهة، بل بدايةً لمرحلةٍ جديدةٍ فرضَتْ فيها المقاومةُ معادلةَ ردعٍ غير تقليديّة.
لم تُحَلّ المقاومةُ بعد التّحرير، بل عزَّزَتْ قُدراتِها، ووسّعَتْ ترسانتَها، ورَسَّختْ دورَها كفاعلٍ أساسيٍّ في معادلةِ الأمنِ الوطنيّ. فتحوّلَ لبنانُ من بلدٍ تحتلُّه فرقةٌ موسيقيّة، إلى بلدٍ يمتلكُ قوّةً إقليميّةً غير تقليديّةٍ تفرضُ المعادلات، وتمنعُ "إسرائيل" من شنِّ حربٍ دونَ حساباتٍ دقيقةٍ للكلفةِ والنّتائج.
فكان عدوانُ تمّوز 2006 شاهداً على فاعليّة هذه المعادلة؛ فقد واجهت "إسرائيل" مقاومةً أكثرَ تنظيماً وتماسكاً وقدرةً، فكان تجسيداً عمليّاً لانتصار أيارِ 2000، ونقطةَ تحوُّلٍ ومحطّةً تأسيسيّةً غيّرتْ موازينَ القوى وأعادتْ للبنان موقعاً جديداً في الحساباتِ الإقليميّة.
تأثيرٌ إقليميٌّ يتعدّى الحدود
ما حدث في أيّار 2000 لم يكنْ انتصاراً لبنانيّاً فحسب، بل مثّلَ هزّةً إستراتيجيّةً في البنيةِ النّفسيّةِ والعسكريّةِ للعدوّ، ومَسَّ هيبةَ "الجيشِ الذي لا يُقهَر"، وفتحَ المجالَ أمام تصوّراتٍ جديدةٍ لإمكانيّةِ الانتصارِ من خارجِ منطقِ الجيوشِ التقليديّة.
التجربةُ اللبنانيّةُ ألهمتْ قوى مقاومةٍ أخرى، وأسقطتِ الرّهانَ على فاعليّةِ الاحتلالِ طويلِ الأمد كوسيلةٍ لإعادةِ هندسةِ المجتمعات، وتشكيلِ الأنظمةِ الحليفةِ في المنطقة. كما دفعتْ "إسرائيلَ" إلى إعادةِ التفكيرِ في تكتيكاتِها، وخصوصاً في التّعاملِ مع البيئاتِ الشعبيّةِ المقاومة.
مرحلة ما بعد التحرير: من الدفاع إلى المبادرة
تحوّل لبنان بعد التحرير من ساحة مفتوحة للعدوان، إلى طرف يمتلك قدرة ردع غير متماثلة. فلبنان قبل التحرير في مرحلة إخضاع، أمّا بعده فبات يفرض توازناً يحول دون مغامرات عسكرية "إسرائيلية" غير محسوبة، كما ظهر جلياً في الحرب الأخيرة.
ورغم التفوق التكنولوجي والجوي للعدو، فشل في كسر بنية المقاومة التي حيّدت هذا التفوق عبر حرب استنزاف ميدانية وعمليات نوعية أربكت قرارات القيادة "الإسرائيلية"، فانتقل العدو إلى الاستثمار في الحرب الناعمة (الضغوط الدبلوماسية، الاختراق السياسي، وتغيير البيئة الداخلية).
العدوّ يُبدّل أدواته: من الحرب إلى الاستقواء السياسي
شنّ العدو في أيلول 2024 عدواناً غوغائيّاً استمرّ 66 يوماً، استخدم فيه أقصى قدراته الجوية والتكنولوجية والاستخباراتية، لكنه فشل في كسر إرادة المقاومة وتحقيق هدفه الإستراتيجي في تفكيك بنيتها وإزالتها من المعادلة، رغم اغتياله لعدد كبير من قادتها الميدانيّين واستهدافه البنى التحتيّة الحيويّة للمقاومة والمنشآت المدنيّة، وعزوفه عن التمييز بين الأهداف العسكريّة وغير العسكريّة، فإنّ التفوق التكنولوجي، المتكئ على أحدث منظومات سلاح الجو، لم يكسر ميزان الردع الذي راكمته المقاومة، والتي استطاعت تحييد مفاعيل هذا التفوق، وجرّ العدو إلى ساحة استنزاف ميدانيّة أربكت قراراته العملانيّة.
وأمام العجز العسكريّ الميداني، اضطرّ العدو إلى القبول بوقفٍ لإطلاق النار، فلجأ إلى توظيف أدوات السياسة والدبلوماسيّة، محاولاً إفراغ المقاومة من مضمونها عبر طروحات دولية متواطئة، لتحقيق ما لم يُحققه بالحرب. فاليوم وبعد ستة أشهر، لا تزال اللجنة الخماسيّة عاجزة عن وقف التعديّات التي تجاوزت 1200 خرق جويّ وبريّ، في وقتٍ يفرض فيه العدوّ أمراً واقعاً بالقوّة على خمس نقاط عسكريّة داخل الأراضي اللبنانية، في اعتداءٍ سافرٍ على السيادة الوطنيّة.
بهذا السلوك، يستغلّ العدوّ الغطاء الدولي المنحاز، لتوسيع نطاق تمدّده العسكري بوسائل الضغط الناعم، سعياً لفرض معادلات ميدانيّة جديدة تُضعف بنية الردع، وتُعيد لبنان إلى حظيرة الوصاية والهيمنة الصهيو-أميركيّة.
في معادلة الصراع بين خيار المقاومة والمساومة، ترجح كفّة المقاومة؛ فالتحرير لم يكن مجرد انسحاب تكتيكي، بل انكسارًا تاريخيًّا للمشروع الصهيوني في المنطقة، ومعركة "أولي البأس" شكّلت صفعة لخططه الهجومية، فهذا المعطى الواقعي ثبّت خيار المقاومة على أنه الوحيد القادر على لجم العدوان وكبح جماحه، فما أُُخذ بالقوة لا يُستردّ إلا بالقوة، والتفوّق لا يُصنع عبر دبلوماسيّة الخضوع، بل من خلال المواجهة المسلّحة.
خاتمة: نصرٌ بمفاعيلَ إستراتيجيّةٍ مستمرّة
التّحرير عام 2000 لم يكن فقط نهاية احتلال، بل نقطة تحوّل مفصليّة في مسار الصّراع العربي-"الإسرائيلي"، دشّن عهداً جديداً خرج فيه لبنان من زمن الاحتلال إلى زمن الفعل والمبادرة.
رغم التشابكات الداخلية، أثبت لبنان عبر المقاومة قدرة الشعوب على قلب موازين القوة، وتثبيت معادلات ردع تتجاوز منطق الجيوش الكلاسيكية، وتسقط مقولة "الجيش الذي لا يُقهر" لتكشف أنه أوهن من بيت العنكبوت حين تتّحد ثلاثية "الجيش والشعب والمقاومة".
ومنذ ذلك الحين، دخل لبنان معادلة الشرق الأوسط كلاعب يمتلك زمام الردع، ويفرض حضوره على ميزان القرار. فقد أصبحت المقاومة ركيزة في هندسة التّوازن الإقليمي، وتحوّل الجنوب من خاصرة رخوة إلى جبهة منيعة تتكسّر عندها الأطماع.
اليوم يسعى العدو لإعادة عقارب الزّمن إلى الوراء وتفكيك منظومة الرّدع، لكن تبقى الحقيقة الواضحة، أن إرادة الشعوب حين تتسلّح بالإيمان والصمود لا تُهزم، وأنّ الحرية حين تولد من رحم المعاناة لا تُقتلع من الوجدان. فقوة المقاومة "فُعلت لتغيِّر مجرى التاريخ"، وأثبتت أنّ القوة وحدها هي القول الفصل في إثبات الحق، والمساومة خيار الضعفاء، فيما تبقى المقاومة نهج الأقوياء. ومعادلة الردع التي صنعتها المقاومة باقية ما بقي الاحتلال، لأنها لم تُبْنَ بوهم التفاهمات، بل بدماء الشهداء.