نقاط على الحروف

لطالما كانت الإشكالية المتعلقة بهوية لبنان وأبعادها الثقافية والاجتماعية والسياسية تمثل محور خلاف داخلي، اتّخذ ولا يزال مناحي جذرية في التعريف والتطبيق، وكذلك في رؤية مستقبل البلد وحسم اتجاهاته الإستراتيجية وتحديد انتمائه القومي والوطني ورسم مديات علاقاته في إطار المنظومة العربية والإسلامية من جهة والمنظومة الدولية الشرقية والغربية من جهة ثانية.
وتجاوزاً للبحث التاريخي في أصل وكيفية نشوء لبنان وتقلّباته على مستوى تشكيل الهوية والكيان، والتي فرضتها التغيّرات الدولية بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، فقد حافظ البلد على ميزته في التنوّع والاختلاف، بل إن هذه الميزة ترسّخت في جذورها لتتحوّل إلى موانع اجتماعية وثقافية حالت دون التقاء عناصر تكوينه، وذلك نتيجة إصرار بعض أبنائه على اتّباع منهج التمايز والعزل ورفض الاندماج في بوتقة وطنية واحدة تأخذ بالبلد إلى الاستقرار في هويته وفعالية دوره ضمن عالم متغيّر.
ظنّ اللبنانيون أن سياسة الانعزال قد أخذت طريقها إلى الضعف والزوال مع توقيع اتفاق الطائف والرسو على معادلة قانونية تمنح كل طرف حقوقه الدستورية، وترسم دوره ووظيفته في استنهاض البلد وتضع حداً للاحتراب الداخلي ولغة السلاح، وبالفعل نجح الاتفاق في إعادة الاستقرار الأمني، ولكنه لم يلغِ تمترس الأطراف المتحاربة خلف أهدافها، بمعنى آخر فقد بقيت الأطراف محافظة على توجهاتها التي سوّغت لها الحرب، ووجدت في الاتفاق فرصة للتموضع بانتظار اللحظة المناسبة لاستئناف الحرب بأسلوب جديد.
الحقيقة، أن المشغّل الخارجي لهذه الأطراف رأى أن 15 عاماً من الحرب قد استنفدت أغراضها وأصبحت عبئاً على تحقيق الأهداف المرسومة دولياً وإسرائيلياً، فعلى الرغم من أن الهدف الرئيس كان تهجير البندقية الفلسطينية المحاربة وحصر الأخرى في مخيمات مضبوطة الأمن والحماية، وهذا ما حصل كواحدة من نتائج الاجتياح الإسرائيلي للبنان العام 1982، فإن المقاومة في هويتها اللبنانية لم تلقِ سلاحها بل قويت وتعاظمت وأخذت تتشكّل في بنية المجتمع اللبناني تياراً فاعلاً لا يمكن تهجير بندقيته أو قمعه، خصوصاً أنه ارتبط في تلك الفترة بحسابات إقليمية ودولية دفعت إلى وقف الحرب بغطاء عربي واعتماد نهج آخر تحت عنوان الإنماء والازدهار، وصولاً إلى احتواء هذا التيار ضمن منظومة الدولة وإرساء خيار "السلام" الشامل.
انتهت "الحرب الأهلية" وفق مسمّاها الملتبس، وانخرط الجميع في تفعيل مرحلة إعادة بناء لبنان دون أن تأخذ الأمور مجراها في معالجة أصل المشكلة وهو استمرار الاحتلال الإسرائيلي لمناطق الجنوب والبقاع الغربي إلى أن فرضت المقاومة الانتصار والتحرير في العام 2000 ومن ثم الانتصار الإلهي والإستراتيجي في العام 2006 في الميدان العسكري مع تنسيق وثيق مع القوى الأمنية الرسمية وعلى رأسها الجيش اللبناني واحتضان شامل من قبل الشعب لتتكرّس معادلة "جيش وشعب ومقاومة"، ولكن بقي الفريق الانعزالي على توجهاته التقسيمية ليعتمد أسلوباً جديداً يستهدف سلخ الهوية اللبنانية عن المقاومة.
قامت سياسة الانعزاليين في لبنان على ثلاث دعائم. الأولى: استهداف سلاح المقاومة وتصويره على أنه أداة استقواء غير "شرعية" وأن الجيش اللبناني هو الجهة الوحيدة التي تمتلك حصرية السلاح. الثانية: شيطنة المقاومة وتصويرها على أنها فئة تتبع أجندة غير لبنانية!! وتستبطن أهدافاً لا تحقّق الاستقرار الداخلي. الثالثة: شيطنة بيئة المقاومة عموماً والطائفة الشيعية خصوصاً وتصويرها على أنها فئة غير لبنانية، وخرج من دعا إلى تهجير الشيعة إلى إيران والعراق لتخليص لبنان منهم. وعمد هذا الفريق وفق خطط ممنهجة إلى إطلاق بروباغندا هائلة سعت إلى تسويق مفهوم الدولة من منطلق إلغائي بحت، مع علم هؤلاء أن هذا المفهوم لا يؤدي إلى إرساء مفهوم الدولة بقدر ما يؤدي إلى تفتيتها وشرذمتها وإشعال فتائل التفرقة والفتنة، وهذا يعني إعادة لبنان إلى أتون الحرب الداخلية.
يكتب التاريخ وتدوّن التجربة اللبنانية أن المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي على اختلاف انتماءاتها الفكرية الوطنية أو الإسلامية لم تنطلق يوماً من خلفيات غير لبنانية، بل كانت دوماً تعبيراً عن اتجاه لبناني - عربي – إسلامي خالص يتخذ من القضية الفلسطينية محوراً أساسياً في سياق الصراع العربي – الصهيوني، وليس في ذلك دفاعاً أو تبريراً بل تثبيتاً للحقيقة التي يحاول الانعزاليون التشويش عليها بغبار المواقف الغوغائية، فإن أفق المواجهة والممانعة التي يتنكّر له هؤلاء يتجاوز في تاريخه زمن زرع "إسرائيل" غدة سرطانية في أرض فلسطين، ويعود إلى زمن الاحتلالين الفرنسي والبريطاني والحكم العثماني وقبل تأسيس الجمهورية الإسلامية في إيران وتشكيل حزب الله وفصائل المقاومة في لبنان.
وربطاً بما سبق يصبح الحديث عن لبنانية المقاومة ولغتها أو عودتها إلى الحضن العربي واحداً من ضروب الغباء السياسي الذي لا يجد له ترجمة موضوعية في نفوس الناس ولا سيّما لدى بيئة المقاومة، بل يكشف بوضوح عن تبعية هؤلاء إلى الخارج ويسفر عن حقيقة الهوية التي يريدونها للبنان وهي أن يكون ساحة خلفية لـ"إسرائيل" ومحمية سياسية غربية تتحكم بها واشنطن عبر مندوبيها اللا ساميين وآخرهم الصهيونية مورغان أورتاغوس، فأي لغة يريدها مدّعو السيادة في ظل انتهاك إسرائيلي يومي للسيادة اللبنانية قتلاً وتدميراً واستباحة للأجواء اللبنانية براً وجواً وبحراً!؟ هل اللغة اللبنانية والانتماء العربي يفترضان أن يصمت لبنان بحكومته وسياسييه عن العربدة الإسرائيلية وأداء فروض الطاعة والانصياع للإملاءات الأمريكية!؟
على مدى 18 عاماً كان لبنان يعم بالأمن والسيادة الحقيقيين بعد أن فرضت المقاومة معادلة "توازن الرعب" وقانون الرد المتكافئ على أي عدوان إسرائيلي، وكان السلاح العنصر الرئيس الذي أجبر "إسرائيل" على احترام لبنان وشعبه وجيشه ومؤسساته وسيادته، أما اليوم فإن المقاومة ملتزمة بوقف إطلاق النار وتعطي الدولة فرصتها في تنفيذ وعودها التي وردت في خطاب القسم والبيان الوزاري بإزالة الاحتلال وإعادة الأسرى وتحرير الأرض وضمان أمن اللبنانين والجنوبيين خصوصاً وإعادة إعمار ما هدمته الحرب، فما الذي تحقق من ذلك!؟ وما الذي يمنع من تحقيق هذه الوعود!؟ هل هي المقاومة وسلاحها وصبر بيئتها المخلصة أم تعنّت الاحتلال واستقواء الفريق الانعزالي بالضغوط الأمريكية والإسرائيلية على لبنان!؟
عبثاً يراهن هؤلاء على سراب متوهمين أن خطاب التخوين والانعزال قد يفلح في سلخ المقاومة عن بيئتها أو يؤثر في تشبّث شعب المقاومة بخياراته الإستراتيجية التي لم تتغيّر منذ عشرات العقود من السنين، بل إن هؤلاء يسهمون بخطابهم هذا في تكريس نهج المقاومة والذي تجلّى في النتائج الكاسحة للوائح "التنمية والمقاومة" في الانتخابات البلدية والاختيارية في كل لبنان، ولعلّ هذا المعطى قد أدّى إلى شعور هؤلاء بالإحباط وهستيريا الهزيمة فلم يجد مسؤولوهم الحزبيون وعلى رأسهم سمير جعجع ومعهم وزراؤهم ونوابهم إلا خطاب الفتنة سبيلاً لإثارة الغبار، سعياً لتخريب الحوار بين حزب الله ورئيس الجمهورية العماد جوزف عون، وهذه هي لغتهم التي يتقنون نطق حروفها. أما حروف الوطنية فهي لغة المقاومة وشرفاء الوطن.