نقاط على الحروف

يومًا بعد يوم، تشتدّ الرقابة العسكرية على الخبر الصهيوني، صورة كان أو حصيلة خسائر. ومن المعروف أنّ الصهاينة يستخدمون التعتيم الإعلامي الشديد حين يتعلّق الأمر بخسائرهم ونقاط ضعفهم، وهم شديدو الإنتقائية في ما يخصّ الخبر الصادر عنهم، إذ يصبّ دائمًا في البروباغندا التي يحتاجون إليها في لحظة دون سواها، وقد تختلف من الإخفاء شبه التام للمعطى الإعلامي والإكتفاء بالإقرار بما لا يمكن إخفاؤه، تمامًا كما يجري الآن، أو على العكس، استخدام الصور المزوّرة والأخبار المفبركة لتثبيت مظلومية وهمية، كما جرى في ٧ أوكتوبر حين ادّعى الإعلام الصهيوني وروّج لإدعائه هذا العالم أنّ المقاومة في غزّة قامت بذبح عشرات الأطفال "الإسرائيليين"! إذًا، الإعلام الصهيوني واقعًا ليس إعلامًا بالمعنى المتعارف عليه وإنّما أداة حربية تُستخدم في المعارك، لإسدال ستار على حدث أو لصناعة حدث كاذب، بحسب ما تقتضيه الحاجة.
يعيش الصهاينة اليوم حالًا غير مسبوقة، حالًا لم ترد حتى في أسوأ كوابيسهم، ولذلك هم يعملون جاهدين لإخفائها عن عين العالم لأن انكشاف حقيقتها الكاملة يُعدّ في الواقع سقوط آخر أوهامهم بإمكانية البقاء بأمان على أرض فلسطين. وفي هذا الإطار، يتشدّد الإعلام الصهيوني في التعتيم على خسائره الحقيقية، البشرية والإقتصادية والعسكرية والأمنية، في حربه على إيران. ويأتي ذلك في إطار الإستجابة للأوامر العسكرية التي تمنع تصوير الأماكن التي تستهدفها الصواريخ الإيرانية، وكذلك تحظر نشر الأعداد الفعلية للقتلى والجرحى الصهاينة، أو حجم الأضرار في المواقع المستهدفة. تنشر الصحافة الصهيونية ما يُسمح بنشره فقط وفي سياق يخدم الدعاية المطلوبة. ولكن، كلّ هذه الإجراءات الإعلامية إذا صحّ القول لم تعد كافية لإخفاء المشهد غير المسبوق في كيان الإحتلال، وصور الدمار التي تصل مزيّنة بصرخات المستوطنين ودموعهم ترسم صورة شبه كاملة عن الحقيقة التي لم يعد بالإمكان إخفاؤها، صورة تثلج قلوب مشاهديها من أهل المقاومة في كلّ البلاد. نعم، شُوهد المستوطنون مكدسّين في مراكز إيواء، يطرد بعضهم بعضًا من الغرف المحصّنة.. هذه الغرف التي دُمّرت فوق رؤوس المتواجدين بداخلها بفعل الضربات الإيرانية المباركة، بعد أجيال ارتكزت فيها الدعاية الصهيونية على كون المستوطنين مرفّهين محصّنين لا يمسّهم صاروخ أو شظية. وشُوهد المستوطنون يتفقّدون بيوتًا مدمّرة وشوارع يكسوها الركام بعد سنين كان فيه مشهد الدمار معتادًا في بيوتنا وشوارعنا وأيامنا، نحن فقط.. شُوهدوا يبثّون الرسائل المصوّرة وهم يبكون ويرجون "إيران" أن تعفو عنهم وتكفَ عن استهدافهم.. شُوهدت المدن والمستوطنات وهي تصغي للإنذارات الإيرانية بضرورة الإخلاء وإلّا، بعدما كانت خرائط التهديد والإنذارات فكرة وجهتها نحن، يطبخها الصهيوني ويوزّعها وكلّه ظنّ أنّه لن يتذوّق مثلها... هذا قليل ممّا يجري عليهم، والذي لم يعد بإمكانهم التعتيم عليه، أما ما لا يُعترف به ولا يُرى فأكثر بكثير.
وفي السياق نفسه، يعمد الإعلام الصهيوني، بنوعيه العبري والعربي، إلى التركيز على الضربات التي ينفذّها الصهاينة ضد مدن ومنشآت الجمهورية الإسلامية في إيران، محاولًا تصوير المعركة وكأنّها حالة تفوّق عسكري صهيوني لا يُردع ولا يقاوَم، بالتوازي مع الإدعاء دائمًا بأن الصواريخ الإعتراضية "الإسرائيلية" ومنظومات الدفاع تمكّنت من صدّ معظم الصواريخ الإيرانية. وهو أمر تكذّبه الوقائع المرئية. ويأتي هذا كلّه بالتزامن مع تسليط الضوء على الخطابات الحماسية لترامب ونتنياهو، والتي تحوي الكثير من الكلام التصعيدي الذي من أبرز أهدافه المكابرة والتعتيم على هول الأضرار والخسائر اللاحقة بالكيان المؤقت.
إذًا بين الرقابة العسكرية الصارمة على النشر في داخل كيان الإحتلال، وبين متطلبات البروباغندا الأميركية الصهيونية في هذه المعركة، يُستخدم الإعلام حرفيًا كأداة حرب لا تمتّ إلى مفهوم الإعلام بصيغته الطبيعية بصلة. المعركة مستمرّة، وكذلك المشاهد التي توثّق "مرّة أولى" في تاريخ الصهاينة، مهما حاول هؤلاء التجاوز عنها أو المكابرة عليها أو إخفاءها عن أعين العالم؛ هذه المشاهد ليست مجرّد صورًا توثّق أضرار حرب، بل مقدّمات تشير إلى هزيمة الكيان المتصدّع، وإن كان الدمار والوجع في بلادنا وقود ثورة متجدّدة متواصلة ضدّ الظلم، كوننا أبناء الأرض المنتمين إليها، فالدمار والوجع في صفوف مجتمع الإستيطان سببًا كافيًا لهجرة معاكسة يتمنّى المستوطنون اليوم القيام بها ولكن حتى الساعة يمنعهم كيانهم من تنفيذها عبر منعهم من السفر خشية ألّا يعودوا، ما دفع بالكثيرين إلى الهرب نحو قبرص عبر اليخوت.