مقالات

لقد خرج الرهان الأميركي–"الإسرائيلي" على إسقاط النظام الإيراني خائبًا، وأثبتت إيران – بصمودها وقدراتها – أنها ليست مجرد هدف تم استهدافه بالإعلام والغارات، بل صارت فاعلًا إقليميًا قادرًا على فرض معادلات جديدة ومفاجئة. فالحرب الأخيرة، رغم ضخامتها أمام الرأي العام العالمي، كانت أيضًا لحظة توثّق الفجوة بين ما يريده الغرب وما عليه الواقع ميدانيًا وسياسيًا.
انهيار حسابات التحالف: "الضربة القاضية" تتكسّر أمام إرادة إيران
في بداية الهجوم، راهن ترامب ونتنياهو على أن الضربات الجوية، وسطوة الطائرات المسيرة، واغتيال العلماء العسكريين، ستُفقد النظام توازنه ويقع. توقعوا أن يصدر ردٌّ ضعيف، وأن ينشب انقسام داخلي، يُستخدم كذريعة للإطاحة بالنظام. لكن الواقع الميداني كشف عن ضعف معلوماتي عميق. بعد 17 ساعة من التمهيد الصامت، أتى الرد الصاروخي المضبوط، محكّمًا حسابه بين الردع والهجوم، دون الانجرار إلى حرب شاملة. كانت هذه "لحظة اختبار" كشفت هشاشة التقديرات الغربية التي ارتكبت خطأ متكرّرًا: خطاب التصوُّر مقابل الواقع في الميزان العسكري والاجتماعي.
الرد الصاروخي: صناعة من داخل مقاطعة
لم تكن منظومات الدفاع والصواريخ الإيرانية أدوات مفروضة بالاستيراد، بل إنتاج محلي قائم على بنية صناعية متطورة. هذه الصواريخ لم تُطلق بدافع المغامرة، بل كعرض قوة يُثبت مدى قدرة إيران على التسلّح الذاتي، والتحكم في تكتيكات المواجهة. فالصواريخ لم تستهدف المدنيين فقط، بل أُطلقت نحو عمق الأراضي المحتلة، في خطوة سياسية رسّخت مفهوم الردّ المُسيطر عليه، لا العشوائي.
هذا التحول في التسلّح لا يعني تكديس الأسلحة فحسب، بل يعني أن إيران منعت صواريخها من الوقوع فريسة لحظر خارجي. انتقلت من دولة محاصرة إلى دولة قادرة على الصمود المدعوم بقدرات محلية قوية، قادرة على الضرب والردع.
مقاومة موحّدة: خطاب سياسي يعيد ضبط الذات
الإستراتيجية الإعلامية المختلطة من الولايات المتحدة و"إسرائيل" – التي استخدمت الفضاء الافتراضي لقلب الرأي الإيراني – باءت بالفشل. رغم التباين الداخلي، فإن الشعب الإيراني – تحت ضغط مشترك – لم يفقد مركزه. لقد أنجز الرد الإيراني على الأرض، ما لم تتمكّن اللافتات والفيديوهات المعادية من تحقيقه: وحدة وطنية مُصاغة بمقاومة واضحة. ما كانت التباينات السياسية سوى شكل للتنوع الديمقراطي الداخلي، لكنّها لم تفضِ إلى الشرخ الذي راهن عليه الغرب. بل بالعكس، الحملة الإعلامية هذه أوصلت رسالة منعزلة للشعب: أن الهدف هو إيران السيادة، وليس منتخبي النظام فقط.
تجربة مُختبرة: التجهيز للحرب الحقيقية
العمليات الحربية، رغم حدتها، وفرت للقوات الإيرانية تجربة فعلية حقيقية. التجربة تجلّت في اختبار المنظومات التقنية، والتحكم في الاشتباكات دون الانهيار النفسي أو الميداني. الحرس الثوري تعلم نقاط ضعف "إسرائيل" – سواء في الردّ المؤثر أو عجز نوعي قد يُستغَل مستقبلًا. واليوم، حين يفكر المسؤولون الغربيون بالتدخل في ملفات شبيهة مثل سورية أو لبنان، فلن يعيدوا حساباتهم دون الأخذ بعين الاعتبار دروس الردع الإيراني.
بداية النهاية: إعادة تشكيل معادلات المنطقة
وقف إطلاق النار لم يكن نهاية معركة، بل مناسبة للتخلي التدريجي عن منطق الهيمنة العسكرية المباشرة. إنجاز وقف النار العادل والمرتبط بمفهوم وقف الحرب وليس هزيمة الطرف الآخر، يُمثل اعترافًا ضمنًا بقوة إيران وقدرتها على حماية مصالحها داخل الإقليم. ترامب نفسه، لم يعد يطالب بـ"استسلام غير مشروط". بل تراجع عن فكرة المواجهة المطولة، ليصير في موقف دفاعي يعترف بـ "التأثير المزدوج" الذي تمتلكه إيران.
تسوية جديدة: إيران لا تستسلم، بل تُعيد تفاوض قواعد اللعبة
المشهد المقبل يتطلب قراءة جديدة: لم يعد كافيًا أن يقيس الغرب قدراته بالنظر إلى "إسرائيل" فقط. إيران التي حولت تجربة الضرر إلى فرصة، وأقامت صناعة محلية واختبرت قوتها، باتت اليوم قادرة على التفاوض من موقع أقوى، مفاوضة على شروط جديدة للوجود الإقليمي والتسليح السيادي. وهذا يعني أن المرحلة القادمة قد تستدعي "تسوية رمادية" لا تنتقص من المشروع النووي الإيراني، بحدود تقنية، لا توقفًا كليًّا.
من طور الإضعاف إلى طور الاقتدار
في مواجهة تقليدية، يُعد الرد فرصة لتعزيز السردية والسيطرة. لكن السردية الإيرانية الجديدة، المكتسبة خلال عشرة أيام من المواجهة، صعدت إلى مرحلة الاقتدار، لا الاكتفاء بالصمود. لقد تحرّكت إيران من طور تأسيس الدولة إلى طور مشروع سيادي قادر على الحماية، والحرب، والمفاوضة بنموذج مستقل.
نقطة التحول هي أن النظام الإيراني لم يعد مُطالَبًا بالاستسلام، بل بالحفاظ على طاقته الذاتية المتعاظمة. وهنا تقع المفارقة الكبرى: أميركا و"إسرائيل" يعلمان اليوم، أن الطريق الأمثل للتعامل مع إيران لن يكون عبر الغارات السياسية أو القوّة المغامرة، بل بإعادة قراءة سياسة الإقليم وتحالفاته، من جديد.
إيران كقوة معيارية
ليست الحرب مجرد لحظة في الزمن، بل لحظة تؤرّخ لتحوُّل. وما جرى في المواجهة الأخيرة بين إيران وأعدائها، يجب ألا يُقرأ كنجاة نظام، بل كبداية دولة–نموذج. إيران التي قاومت، وصمدت، وهدّدت، هي إيران التي خرجت أقوى، لا فقط عسكريًا، بل رمزيًا. صارت مرجعية سيادية، ومختبرًا لفكرة الدولة غير التابعة في القرن الحادي والعشرين.
وفي عالم تزداد فيه الحروب السيبرانية، والاستتباع المالي، والدعاية الأيديولوجية، قدّمت إيران سردية مختلفة: القوّة لا تُقاس فقط بالمفاعلات، بل بالإرادة. والسيادة لا تُهدى، بل تُنتزع. ولهذا، فإن إيران لم تعد فقط دولة في الخريطة، بل أصبحت صانعة خرائط. لقد انتقلت من المستهدَف إلى صانعة المعادلات، ومن دولة تتلقّى الصفعات، إلى دولة تحسم اللحظة وتُرعب الخصوم.