مقالات مختارة

إبراهيم الأمين - صحيفة الأخبار
اللبنانيون ليسوا من النوع الذي يقبل الإقرار بأنهم ليسوا شاغلي الدنيا. والزوار الأجانب لا يتعجّبون من قدرات تميّز اللبنانيين كأفراد، لكنّهم يكادون يفقدون صوابهم عندما يسمعون السياسيين منهم على وجه التحديد، وهم يطلبون من الخارج معالجة مشكلاتهم.
توم برّاك هو أحد هؤلاء الأجانب. جذوره اللبنانية، وتجاربه في العمل مع لبنانيين، تسمح له بالإعراب عن عاطفة كبيرة تجاه البلد. هذا فقط أمام البقية، فهو يريد من الكل أن يتصرف معه على أنه في هذه اللحظة الراهنة، ليس سوى موفد لإدارة أميركية لديها ثوابتها إزاء القضايا الحسّاسة سواء في لبنان أو المنطقة. ولأنه رجل عملاني، فهو يظهر حماسة كبيرة في الملف السوري، آملًا الوصول إلى نتائج. إلا أنه بعد زيارته الثانية إلى بيروت، لا يظهر ثقة في قدرته على التوصّل مع اللبنانيين إلى حل يناسب إستراتيجية بلاده، ويحقّق للبنان ما يريده.
زارنا برّاك للمرة الأولى، في 19 حزيران الماضي. كانت ستة أيام قد مرّت على بدء العدوان "الإسرائيلي" على إيران، وقبل ستة أيام من دخول بلاده الحرب مباشرة، ثمّ الإعلان عن وقف الحرب. وهو عاد أمس إلى بيروت، في اليوم الذي يُفترض أن يُقنِع رئيسه دونالد ترامب رئيس وزراء الحروب في المنطقة بنيامين نتنياهو، بأنه حان الوقت لوقف الحرب في غزّة التي أثخنت الليلة الماضية الجراح في جيش الاحتلال.
طبعًا، هناك الكثير من النقاش حول ما سلّمه برّاك للبنان في زيارته الأولى (يحرص الجميع على عدم تسريب النص الحرفي لورقة برّاك).
وبين اجتماعه الصباحي مع الرئيس جوزيف عون، ولقاءاته مع الرئيسين نبيه بري ونواف سلام وآخرين، لم يكن الرجل مضطرًا إلى تسلّم أوراق الرد اللبناني. فهو كان على تواصل دائم مع "فرق عمل" في لبنان، نسّقت مع الجهات اللبنانية خلال الأيام الخمسة الماضية، وجرى تبادل للمعلومات. حتّى إن شخصية بارزة تقول إن الردّ اللبناني قرأه برّاك قبل دخوله إلى الاجتماع مع رئيس الجمهورية. كما لفت أحد الحاضرين في الاجتماع إلى أن برّاك لم يقرأ الردّ، بل استرسل في حديثه مع الرئيس عون، الذي تولى الشرح بإيجاز.
إلى ما بعد الظهر، كان اللبنانيون يتبادلون اللكمات. بينهم من كان ينتظر من برّاك أن يضرب على الطاولة ويعلن بدء الجولة الجديدة من الحرب الإسرائيلية، مقابل آخرين كانوا يقولون إن الرجل سيعطي لبنان فرصة إضافية لإيجاد حل يرضي واشنطن، وبين فريق ثالث لم تستفزّه تصريحات برّاك، لكنّها لم تُزِل القلق من خدعة جديدة.
لكن ما الذي تغيّر بين الزيارتين؟
أولًا: عندما جاء برّاك في المرة الأولى، كانت بلاده تعتقد بأنها و"إسرائيل" ستنجزان عملية كبيرة وضخمة في إيران، وأن النظام هناك سيسقط، ولن يكون هناك من قدرة لحزب الله على الصمود ومقاومة الطلبات. كما كان الفريق الأميركي يعتبر أن ما تحقّق بين 13 و15 حزيران، يمثّل نقطة تفوّق لصالح "إسرائيل"، ما جعل برّاك غير مضطر إلى رفع الصوت عاليًا.
أمس، كان برّاك عارفاَ بنتائج المواجهة بين "إسرائيل" وأميركا وإيران، وأنها لم تكن كما أرادت إدارته. وأكثر من ذلك، تولّت جهة أميركية إعداد توصية تتحدّث عن "ارتفاع في معنويات حلفاء إيران" بعد الحرب. وعليه، فإن برّاك كان يعرف مسبقًا أن حزب الله لن يقبل التوقيع على صكّ الاستسلام الذي حمله في المرة الماضية، وهو ما حاول الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم شرحه بصورة شبه يومية طوال أيام عاشوراء، قبل أن يحسم الجدل حول موقف الحزب: لا تسليم للسلاح!
ثانيًا: لم يكن برّاك يتّكل على أيّ من القوى اللبنانية المحلية. لذلك، حاول الاستفادة من ضغط سعودي قد يساعد في رفع منسوب الضغط على الرؤساء الثلاثة لحثّهم على مواجهة حزب الله. لكنّ برّاك الذي ينسّق أمور لبنان مع المندوب السامي السعودي يزيد بن فرحان، تبيّن أنه يعرف الكثير عن ساسة لبنان، وقد وجد أن الأفضل أن يصارحهم بأن ما هو قائم لن يمثّل مشكلة لأميركا، وأن "إسرائيل" ستعالج مشكلتها مع حزب الله على طريقتها، وأن ما بقي هو مشكلة تخصّ اللبنانيين، ولن يتدخّل أحد في هذا الشأن.
ثالثًا: يعرف برّاك أن تعليق بلاده على الردّ اللبناني مرتبط أكثر بما سيتفق عليه ترامب مع نتنياهو، وعندما قال إنه لا يملك أي ضمانة بعدم لجوء "إسرائيل" إلى حرب جديدة، فهو كان يقول إن اجتماع واشنطن سيعطي الإشارة إلى طبيعة الوجهة في المرة المقبلة.
عمليًا، ما فعله برّاك كان جيدًا لجهة أنه لم يكذب في مسألة موقف بلاده من مصالح "إسرائيل"، وأنه كان صريحًا في عدم رهانه على دور لحلفائه في بيروت، وكان فجًّا بإعلان عدم استعداد بلاده لخوض معاركهم بالنيابة عنهم، لكن الأكثر خطورة، هو ان برّاك، المهتم بنقل المساعدات المالية إلى سورية حصرًا في هذه الفترة، يعرف أن أهل الخليج ليس عندهم المال الكافي أصلًا، وحتّى لا يكون هناك من انتظار لمنح لبنان حصة من أموال إعادة الإعمار، فقد وفّر لنفسه ولهذه الدول الحجة الفضلى: لبنان ليس جاهزًا لتلقّي الدعم!