اهلا وسهلا...
موقع العهد الاخباري

كانت البداية في 18 حزيران/ يونيو 1984 في جريدة اسبوعية باسم العهد، ومن ثم في 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 1999 أطلقت النسخة الاولى من جريدة العهد على الانترنت إلى ان أصبحت اليوم موقعاً إخبارياً يومياً سياسياً شاملاً

للتواصل: [email protected]
00961555712

المقال التالي يوم صحي مجاني في لبايا: استشارات طبية متخصّصة وفحوصات مجانية

مقالات

مقاتلو غزّة يصمدون وجنود
مقالات

مقاتلو غزّة يصمدون وجنود "إسرائيل" ينتحرون من رائحة الموت

116

منذ عقود، اعتادت "إسرائيل" على خوض حروب قصيرة، خاطفة، تكسر بها إرادة الشعوب وتفرض وقائع سياسية جديدة بقوة النار والردع. لكن في غزّة، وللمرة الأولى في تاريخها العسكري، وجدت نفسها في ساحة تتحول فيها التكنولوجيا إلى عبء، وتصبح الآلة العسكرية المتفوقة بلا جدوى أمام مقاومة تقاتل بخطط "كمائن الموت" ووعي هندسي يتجاوز كلّ توقعاتها. وهكذا يتحول "الجنود "الإسرائيليون"" إلى أهداف سهلة، يقتلهم الانهيار النفسي قبل أن تصل إليهم العبوات الناسفة.

تفكيك سردية الجيش غير الأخلاقي

المجزرة النفسية داخل "الجيش الإسرائيلي" باتت حقيقة موثقة: 43 حالة انتحار منذ بداية الحرب، والرقم مرشح للارتفاع. واللافت أن الرواية لم تعد تنكر، بل بدأت تتكشّف داخل الإعلام العبري، في تسريبات موجهة لمحاولة احتواء السقوط المعنوي الذي يشقّ طريقه إلى كلّ ثكنة.

كيف نفسر إذًا أن جيشًا تُمطره الولايات المتحدة بمليارات الدولارات، ويمتلك أحدث منظومات التوجيه والاستطلاع والمراقبة، لا يحتمل عبور حقل ألغام في بيت حانون، أو يصاب بالهلع من تفجير عبوة ناسفة في الشجاعية، أو يفقد السيطرة على وحداته عند هجوم ليلي في خان يونس؟ الجواب لا يكمن في القدرات، بل في معنى القتال: جنود يقاتلون من دون عقيدة، أمام مقاومة تقاتل بإيمان مطلق بعدالة قضيتها.

بيت حانون: الكمين الذي كسَر وهم السيطرة

عملية بيت حانون، في وقت متأخر من مساء الاثنين، ليست فقط واحدة من أعقد عمليات المقاومة منذ بداية الحرب، بل تمثّل تحوّلًا نوعيًّا في ميزان الرعب. الكمين جرى على مراحل متسلسلة هندسيًا: تفجير مدرعة تقلّ جنودًا، ضرب روبوت ذخيرة، استهداف قوة الإنقاذ، ثمّ إطلاق النار على من تبقى. النتيجة: خمسة قتلى، عشرة جرحى، وجندي مفقود.

هنا لا يتعلّق الأمر فقط بعدد القتلى، بل برسالة المقاومة: أن حتّى ما يسمّى بـ"المنطقة الأمنية العازلة" ليست آمنة، وأن "خط التماس" الجديد هو حيث تقرر المقاومة، لا حيث ترسم "إسرائيل" الخرائط.

كمائن المقاومة: البساطة التي تهزم التعقيد

تكتيك "كمائن الموت" يعكس هندسة ميدانية عميقة. ليست هذه مقاومة عشوائية. إنها مقاومة تمتلك هندسة عسكرية تعيد تشكيل البيئة المحطّمة وتحوّلها إلى فخاخ قاتلة. العبوات ليست فقط أدوات تفجير، بل صيغ ميدانية لإرباك الذكاء الاصطناعي "الإسرائيلي"، ولإعادة صياغة مفهوم السيطرة.

"الجيش الإسرائيلي" دخل القطاع ومعه "مركبات جدعون"، لكنّه يخرج منه بجنائز تُنقل على عجل، وجثث لا تُدفن في مراسم عسكرية، وجنود لا يريدون العودة إلى الخدمة.

انهيار النفس قبل تحطيم الجسد

تصف عائلة أحد الجنود المنتحرين مشاهد "رائحة الجثث"، و"نقل الأشلاء"، بأنها "مشاهد لا تُمحى من الذاكرة". إنه "جندي إسرائيلي" لم يصب برصاصة مقاوم، بل قُتل من داخله. انهار تحت وطأة ما رآه، فيما يقف شاب فلسطيني في بيت حانون، بلا ماء، بلا غطاء، ويزرع عبوة ناسفة بأصابع محترقة من التعب والجراح، يزرع عبوة ناسفة في ركام بيته، وينتظر موتًا بطوليًا لا يُذكر في نشرات الأخبار الغربية التي اعتادت تبرير القتل وتجاهل الدم الفلسطيني.

في هذه المفارقة تتجلى البنية الأخلاقية لانهيار المشروع الصهيوني: جنود بلا روح، مقاومون بلا دروع لكن بصلابة من حديد.

الجيش الذي فقد ذاكرته الميدانية

رغم أن "الجيش الإسرائيلي" شنّ مئات الغارات، وادّعى السيطرة على 75% من القطاع، إلا أن كمائن جباليا، ثمّ الشجاعية، فخان يونس، وبيت حانون أخيرًا، تُظهر أنه لا يملك ما يثبّت قبضته على الأرض. وحدات النخبة كـ"يهلوم" و"إيغوز" سقطت مرارًا في ذات الفخاخ، والأسوأ: لم تتعلم.

كل عملية تكشف ثغرة جديدة، وتكرار نفس الأخطاء يُظهر إخفاقًا تراكميًا في استيعاب البيئة القتالية التي خلقتها المقاومة، والتي تتحول يومًا بعد يوم إلى "مسرح هندسي مضاد" لكل المفاهيم "الإسرائيلية" حول التفوّق العسكري.

المعركة لم تعد عسكرية.. بل نفسية

باتت الحرب في غزّة معركة نفسية قبل أن تكون عسكرية. المقاومة لا تهزم الدبابات، بل تهزم "إرادة الاستخدام". عندما يخشى الجندي التقدم، وعندما يتردّد القائد في دخول الميدان، يصبح السلاح بلا معنى.

من هنا، فإن "تل أبيب"، التي دفعت بمئات الجنود إلى رفح وخان يونس وشمال قطاع غزّة، تجد نفسها الآن أمام أزمة من نوع آخر: مقاتلون لا يثقون بقيادتهم، وضباط يعجزون عن تفسير الخسائر، وأسر جنود تحتج على إرسال أبنائها إلى "حقل موت بلا أفق".

"سندكّ هيبة جيشكم": تهديد يتحقق كلّ يوم

ما قالته "كتائب القسام" عقب عملية بيت حانون ليس خطابًا إعلاميًا. "سندكّ هيبة جيشكم" بات واقعًا ميدانيًا يتكرّر كلّ أسبوع. لقد فُقدت هيبة "الجيش الذي لا يُقهر"، وتحولت وحداته الخاصة إلى أهداف "متحركة" لا تتعلم من إخفاقاتها.

ورغم محاولات الاحتلال تصوير عمليات التوغل على أنها "فرض واقع جديد"، إلا أن الفشل في كلّ محور -من بيت حانون حتّى رفح- يجعل كلّ تقدم مؤقتًا، وكلّ إعلان انتصار قابلًا للتبخر مع أول عبوة تنفجر، أو أول مقاوم يخرج من نفق.

من النصر العسكري إلى الكابوس السياسي

الآن، أمام القيادة السياسية "الإسرائيلية" ثلاثة سيناريوهات لا رابع لها:

1. احتلال كامل للقطاع: خيار مكلف، سيحوّل الجيش إلى رهينة مستنقع لا خروج منه.

2. الاستنزاف المتواصل: كما يحدث الآن، مع نزيف بشري ونفسي عميق.

3. الرضوخ لتفاوض شامل: مخرج سياسي بشروط المقاومة لا بهيبة الجنرالات. وهذا ما يحصل الآن.

في كلّ الأحوال، لم تعد "إسرائيل" تملك زمام المبادرة. واللافت أن الرعب بدأ ينتقل من قطاع غزّة إلى مستوطنات الغلاف، التي ظنّت أنها ستنعم بالأمن بعد "الحسم". فالقصف السياسي الرمزي، عبر صواريخ الـ114 ملم، يقول بلغة بسيطة: "لن يكون هناك أمن خارج الاتفاق، ولن تُبنى بيوتكم على أنقاض دمائنا".

في زمن تتحوّل فيه الرؤية الليلية إلى عمى ميداني، والتفوق التكنولوجي إلى عبء نفسي، تكتب المقاومة الفلسطينية فصلًا جديدًا من الحرب: فصلًا عنوانه أن من يقاتل بعقيدة لا يحتاج إلى جيش جرار، بل إلى عبوة ناسفة ووعي هندسي.

الكلمات المفتاحية
مشاركة