مقالات

لعلها المرة الأولى في تاريخ لبنان الحديث، منذ استقلاله عن فرنسا عام 1943 التي تقوم فيها دولة كبرى تتولى ما يشبه دور الوصي على سياسته الخارجية وتشكيل سياسته الداخلية بتوجيه تهديد صريح بضمّه إلى "بلاد الشام" في حال لم يتجاوب مع دفتر الشروط الأميركية للبنان الغد.
التهديد الذي جاء على لسان المبعوث الأميركي إلى سورية ولبنان، والذي بات بحكم الواقع المندوب السامي الأميركي على هذين البلدين، يأتي بعد أيام قليلة على الخطاب "الناعم" الذي أدلى به توم برّاك في بيروت وترك فيه موضوع سلاح المقاومة للحكومة اللبنانية، مبدياً رضاه البالغ على ما قدمته من رد "رائع" على ورقته في هذا الصدد، وقال: "ليس على لبنان الالتزام بأي جدول زمني، ونحن نحاول فقط تقديم المساعدة".
لعلها المرة الأولى في تاريخ لبنان الحديث، منذ استقلاله عن فرنسا عام 1943 التي تقوم فيها دولة كبرى تتولى ما يشبه دور الوصي على سياسته الخارجية وتشكيل سياسته الداخلية بتوجيه تهديد صريح بضمّه إلى "بلاد الشام" في حال لم يتجاوب مع دفتر الشروط الأميركية للبنان الغد.
التهديد الذي جاء على لسان المبعوث الأميركي إلى سورية ولبنان، والذي بات بحكم الواقع المندوب السامي الأميركي على هذين البلدين، يأتي بعد أيام قليلة على الخطاب "الناعم" الذي أدلى به توم برّاك في بيروت وترك فيه موضوع سلاح المقاومة للحكومة اللبنانية، مبدياً رضاه البالغ على ما قدمته من رد "رائع" على ورقته في هذا الصدد، وقال: "ليس على لبنان الالتزام بأي جدول زمني، ونحن نحاول فقط تقديم المساعدة".
فلماذا اختار برّاك لغة التهدئة في بيروت والتصعيد من الخارج؟
تشير عودة الجانب الأميركي سريعاً إلى استخدام لغة التهديد، ولا سيما "التهديد الوجودي" للبنان، إلى استعجاله تحقيق نتائج في لبنان تواكب خطوات التطبيع التي يتم ترتيبها في الخفاء بين الإدارة الحالية في دمشق والكيان الصهيوني، وآخر اللقاءات التي عُقدت بين الجانبين جرت يوم السبت في باكو عاصمة آذربيجان. كما يوجد إحباط عبّر عنه برّاك بالذات ونسَبه إلى الشعب اللبناني بشأن الوضع الراهن، بعد إخفاق وسائل التطويع المعتمدة في الوصول إلى النتيجة المرغوبة في انتزاع سلاح المقاومة، ولا سيما الحصار المالي الأميركي والعدوان الإسرائيلي المستمر على لبنان والحرب الهجينة التي تُشن على بيئة المقاومة.
وتكمن خطورة ما أدلى به برّاك لصحيفتين خليجيتين عن احتمالية إلغاء كيان لبنان المتعارف عليه، في كونه ديبلوماسيًّا يحمل ملفًّا، وليس شخصاً هامشياً أو مسؤولاً سابقاً. وعندما يطرح الفكرة بهذا الوضوح، لا يمكن أن يؤخذ ذلك على أنه مجرد تهديد كلامي في حال لم يذعن لبنان للطلبات الأميركية. وسبق أن أدلى برّاك بتصريح تمهيدي في أيار/ مايو الماضي الفائت عندما اعتبر عبر منصة "إكس" أن تقسيم سورية بموجب اتفاقية سايكس- بيكو (الإنكليزية- الفرنسية) كان خطأ ذا كلفة على أجيال بأكملها، ولن يتكرر مرة أخرى". وهذا يشير إلى أن موضوع الجغرافيا يحضر في التفكير الأميركي في هذه المرحلة، ويواكب ما قاله ترامب غير مرة عن صغر مساحة "إسرائيل" حالياً وأنه يتوجب توفير مساحة إضافية آمنة بالنسبة لها.
السياق السياسي لتصريحات برّاك
للوقوف على أبعاد هذا التهديد، لا بد من الإشارة إلى النقاط الآتية:
- هناك سعي أميركي حثيث لإبرام اتفاق اعتراف وتطبيع بين سورية بإدارة أحمد الشرع والكيان الصهيوني. ويولي الأميركيون أهمية لتوفير حوافز للسلطة القائمة في دمشق، وهي سلطة انتقالية لا يحق لها تقرير قضية خطيرة بهذا الشأن دون وجود مؤسسات دستورية معترف بها. وهذا يذكّر بالضغوط التي مارستها إدارة ترامب في ولايتها الأولى على الحكومة الانتقالية في السودان لتوقيع اتفاق تطبيع مع العدو في 2020. وليس صدفة أن الإدارة الأميركية أعلنت قبل أيام رفع العقوبات الأميركية عن أحمد الشرع و"جبهة النصرة"- "جبهة تحرير الشام"، بالإضافة إلى رفع الإجراءات المالية الموجَّهة ضد الاستثمار الخارجي في سورية. وتريد واشنطن من لبنان ودول أخرى مثل العراق والأردن وتركيا - كما عبّر برّاك- أن تنضم إلى هذا المسار، لأن انضمام سورية وحدها إلى مشروع التطبيع مع كيان الاحتلال قد يجعل سلطة الشرع غير المستقرة بعد وحيدةً ومعزولة في هذا المحيط.
- ثمة سعي أميركي موازٍ لإنهاء الحرب على قطاع غزة على قاعدة إنهاء المقاومة سلاحاً وسلطة وتهجير قسم من أهالي القطاع وتسليم السلطة فيه إلى جهة فلسطينية يرضى عنها الجانبان الأميركي والإسرائيلي. ويعتمد الأميركي على خطة تهدف لانتشال "الإسرائيلي" من مأزق الحرب على غزة مقابل توسيع نطاق اتفاقيات التطبيع مع دول مجاورة وبعيدة.
- بالتزامن أيضاً، يتواصل العدوان الصهيوني على لبنان من خلال الاغتيالات والاعتداءات اليومية، ويتم ربط هذه الانتهاكات للقرار 1701 بتوسيع نطاق البقعة المنزوعة السلاح جنوب الليطاني لتمتد إلى كل لبنان، ما يفسح المجال أمام تجريد لبنان من أية عناصر قوة (لا ضمانات حقيقية في وجه العدوان الصهيوني، لا سلاح نوعياً للجيش، لا إستراتيجية دفاعية وطنية) وإدخاله رسمياً في العصر الأميركي- الإسرائيلي.
- تستخدم الإدارة الأميركية أدوات ضغط مختلفة؛ من أجل دفع جهات لبنانية إلى التحرك علناً في مواجهة المقاومة وتأييد التطبيع مع العدو. وقد لوحظ ارتفاع في منسوب التصريحات السياسية الداخلية بشكل لافت في الآونة الأخيرة ضد استمرار المقاومة، والداعية لتسليم سلاحها إلى سلطة معنية بإتلافه وليس الاستفادة منه.
- هناك استمرار في التسويف والتضييق على إعادة إعمار ما خلّفه العدوان الصهيوني الأخير على لبنان (بالمناسبة، لم تقم الحكومة بأي خطوة لوجستية عملية من أجل التحضير لهذا الاستحقاق).
- تم إصدار عقوبات مالية أميركية جديدة بحق كيانات وشخصيات لبنانية، وهي إجراءات تكثفت في الآونة الأخيرة، وشارك مصرف لبنان في ترجمتها بحجز حسابات بعض الأشخاص في شركة "ويش" لنقل الأموال.
- جرى فرض قيود إضافية على نقل الأموال بين الخارج ولبنان، وتحديداً إلى البيئة التي تحتضن المقاومة.
- تمت فرملة الاستثمارات الخارجية في لبنان، وربطها بسلاح المقاومة.
كل هذه الضغوط لم تفلح في زحزحة المقاومة عن موقفها الذي يجمع بين التمسك بعناصر القوة المتوفرة في مواجهة العدوان والحرص على إيجاد توافق لبناني حول إستراتيجية دفاعية، فجاء دور تحريك "جبهة الشام" التي تسير بانسجام مع الموقف الأميركي. ووجدت السلطة في دمشق في إثارة قضية الموقوفين السوريين في السجون اللبنانية عنوان تحشيد وتوجيه لأنظار السوريين إلى لبنان بذريعة حقوقية، علماً أن الموضوع يتعلق بشكل خاص بأشخاص أدينوا بارتكاب عمليات إرهابية على الأراضي اللبنانية أدت إلى وقوع شهداء ومصابين بين أفراد الجيش وقوى الأمن ومواطنين. ويعتبر النظام الجديد في دمشق، أن هؤلاء جزء من "ثورته"، وعليه أن يستعيدهم بأي طريقة، دون النظر إلى الآليات القانونية الناظمة للعلاقات بين البلدين.
"النموذج"
تركز الإدارة الأميركية في خطابها السياسي على "النموذج السوري" باعتباره مثلاً يحتذى، داعية لبنان إلى اللحاق به لاغتنام "الفرصة التي قد تفوته". وينبغي التنويه هنا إلى أن النموذج السوري في عهد الجولاني هو نموذج قيد الاختبار يقوم على الانصياع للطلبات الأميركية والشروط والمصالح الإسرائيلية، وفي مقدمها قطع صلاتها مع تاريخ سورية النضالي في مواجهة "إسرائيل" وتطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني ولو تدريجياً والانضمام إلى التحالف السياسي- الأمني الذي تقوده الولايات المتحدة في المنطقة.
كما ينبغي الإشارة إلى أنه لا توجد في سورية دولة ذات مؤسسات دستورية حالياً، فكل شيء مناط بسلطة أمنية فصائلية غير منتخبة تدير - وفق منطق الأمور الجارية- مرحلة انتقالية، لكنها تجاوزت مفهوم السلطة الانتقالية إلى تقرير أمور ذات طبيعة دائمة من شكل العلَم إلى تشكيل إدارات الدولة إلى البتّ في موضوع خطير مثل العلاقات مع الكيان الصهيوني. وهذه السلطة التي يديرها رجل واحد تعيش عقدة الثأر من النظام السابق وحلفائه، ولديها استعداد لدفع الأثمان المطلوبة لتمكينها من السيطرة على سورية لما هو أبعد من الخمس سنوات المحددة للمرحلة الانتقالية.
ونظراً؛ لأن سورية تمر بمرحلة صعبة اقتصادياً وأمنياً، ولا يتوفر فيها استقرار سياسي ولا سلطة موحدة على الجغرافيا السورية، ولا وئام اجتماعي بعد كل ما حدث في الشهور الماضية، فهي لا تشكل نموذجاً مغرياً للبنان، كما ينادي الجانب الأميركي متسرعاً ومتلهفاً لتحقيق اختراق بأي ثمن؛ بهدف وضع اليد على كامل المنطقة.
كل ما تقدَّم يقودنا إلى الاستنتاج بأن ما أدلى به توم برّاك هو عملية تلاعب بالجغرافيا والديمغرافيا لتعويض التعثر في المشروع الأميركي للهيمنة على المنطقة. وهذا التلاعب يستبطن مشاريع حروب، ككل تجربة لإعادة النظر في الجغرافيا السياسية القائمة. وهذا الوضع يمثل بالتأكيد ضربة نجلاء لصورة الحكومة اللبنانية التي عمل الأميركيون لتمكينها من أجل مواجهة المقاومة، لكنَّ سيرورة الواقع اللبناني والاستعجال في ترتيب نتائج ترضي الرئيس الأميركي فضحتهم وأخرجت ما في صدورهم من أفكار تهدف إلى ضرب شعوب المنطقة بعضها ببعض من أجل إراحة "إسرائيل" وتمكينها من رقاب الجميع.