مقالات مختارة

ابراهيم الأمين- صحيفة الأخبار
ليست التطورات وحدَها من يعين المقاومة في لبنان على موقفها من قضية السلاح. بل قبل ذلك، وبعده، إرادة قيادتها التزام الموقف الواضح.
وما تدرّج حزب الله في قوله على مدى شهور، صار أشد وضوحاً في الخطاب الآن، للقول إن فكرة نزع السلاح، لن تكون حاضرة في أي نقاش.
والمسألة، لا ترتبط بعناد أو مكابرة من النوع الذي يتحدّث عنه الخصوم، بل، هي ترتبط أكثر من أي وقت، في تشكّل حالة، تحتاج إلى تفسير قبل أن يكون لها أي تبرير، حيث تشكّل وعي جمعي، لدى حزب المقاومة، وبيئته اللصيقة، وأغلب الجمهور الداعم له بين الشيعة أساساً، ثم عند الآخرين، بأن السلاح صار ضرورة ليس في مواجهة العدو الإسرائيلي فقط، بل في مواجهة ما وصفه الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم بـ«الخطر الوجودي».
في هذه النقطة، سيكون النقاش صعباً، وصعباً للغاية. ليس لأن ملف المقاومة بنفسه، شديد الحساسية، بل لكون التداخل القائم الآن، بين الفردي والقبلي والجهوي والوطني والقومي والإسلامي صار في وضع يصعب الفكاك منه لمجرّد إطلاق نظرية أعدّها باحث يمضي وقته على ضفاف بحيرة في شمال القارة.
ما يجري في بلاد الشام اليوم، لن تنطبق عليه نظريات العلم السياسي، والسبب، هو تعاظم الشعور الأقلوي لدى ثلث سكان بلاد الشام على الأقل.
وهو شعور، كان محدوداً جداً قبل سنوات قليلة، لكنّ التحول الكبير، حصل مع الانقلاب الواسع الذي شهدته سوريا وأطاح حكم البعث، بعدما كانت الحرب الأميركية قد أطاحت حكم البعث في العراق.
بهذا المعنى، وجب تفسير الأمور، لا تبريرها. والتفسير، يحتمل في وقت ما، أن يحمل في طياته تبريراً. لكنّ المعنيّ بالحسابات السياسية، عليه أن يكون كثير العقل، وكثير الصبر أيضاً. وهذا ما نفتقده عند قوى أساسية في لبنان والمنطقة. وهو ما لا نعثر عليه إطلاقاً، في برامج الغربيين، ولا سيما الأميركيين منهم.
ما قاله الشيخ قاسم، له تفسير بسيط، مفاده، أن الشيعة في لبنان، وفي المنطقة ضمناً، حصدوا مساحة إضافية من الحصانة والمشاركة العامة في السياسة والاقتصاد، كنتيجة منطقية لتعاظم تأثيرهم في أحداث مفصلية. والكل يعرف، أن المقاومة شكّلت العنوان الأبرز في النهوض السياسي النوعي للشيعة في لبنان.
حتى في مرحلة الإمام موسى الصدر، لم يكن التحوّل النوعي ليحصل، لولا إعلانه ضرورة انخراط الشيعة، كشيعة، في مقاومة الاحتلال، علماً أن القواعد الاجتماعية، الآتية من الطائفة الشيعية، كانت تجد ضالّتها في مسألة المقاومة والتحرّر، ضمن تشكيلات وأطر سياسية وفكرية خارج الوعاء المذهبي.
الشيخ قاسم قال، إن الشيعة في لبنان، بوصفهم حاضنة حزب المقاومة الأكبر، وباعتبارهم يشكّلون البيئة الاجتماعية والعاطفية والاقتصادية للمقاومة، يشعرون بأنهم في خطر وجودي كبير.
لأن إسرائيل التي قاتلوها ببسالة منذ عام 1978، تعمل دون توقّف على الانتقام منهم، وقتلهم بالنار والحصار. كما أن الأنظمة العربية التي وجدت في حركة المقاومة (حزب الله) مصدراً لتعبئة ضدها في بلدان عربية وإسلامية، تسعى هي أيضاً إلى الانتقام والتخلّص من المقاومة في لبنان أولاً.
ثم جاءت مشاركة شيعة لبنان والعراق في مواجهة الهجمة على سوريا، كسبب لتعزيز خطاب الكراهية ضد الشيعة بوصفهم شركاء للنظام السوري في مواجهة معارضيه من الذين وصلوا إلى الحكم اليوم.
وفوق كل ذلك، هناك مشكلة تتصل بدور إيران في المنطقة، حيث استفاد شيعة لبنان بصورة كبيرة من الدعم الإيراني غير العادي، وصار أعداء إيران كلهم أعداء لشيعة لبنان، والعكس صحيح أيضاً، أي إن كل خصوم إيران، صاروا يشعرون بأنه لزاماً عليهم مواجهة الشيعة في لبنان، كجزء من مواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة.
ما قاله الأمين العام لحزب الله، يهدف إلى إشعار اللبنانيين عموماً، بأنّ الشيعة كأقلية، باتوا ينظرون إلى السلاح كمصدر طمأنينة في وجه الأخطار التي تتهدّد وجودهم
كل هذه العوامل، شكّلت مع الوقت، الإطار السياسي للموقف الذي عبّر عنه الشيخ قاسم، عندما قال بوضوح، إن السلاح لن يُترك، لأن هناك جملة أخطار مجتمعة اليوم تهدّد الوجود الشيعي، من أميركا وإسرائيل إلى النظام العربي إلى الجهات التكفيرية، وصولاً إلى المجموعات السياسية أو المسلّحة التي تريد مقاتلة الشيعة في لبنان وأبعد منه أيضاً.
وإلى جانب كل ما سبق، جاءت تطورات الحدث السوري لترسم إطاراً إضافياً يعزّز فكرة حزب الله عن معنى بقاء السلاح في يده. الأمر هنا، لا يتعلق ببسط السلطة في سوريا سيادتها على كامل أراضيها. فهذا أمر ليس حاصلاً على الإطلاق.
وإن التزام المجموعات المسلحة بقرار الرئيس الانتقالي أحمد الشرع، لا يعني أنها مجموعات منضوية في مؤسسات الدولة، ولا يعني أنها تحترم سيادة الدولة وحصرية السلاح بيدها، بل الأمر في غاية البساطة، حيث إن هذه الفصائل، سواء كان اسمها مجموعات إسلامية، أو قبائل مذهبية، أو عشائر عربية، ليست في حقيقة الأمر، سوى القاعدة الاجتماعية – المذهبية التي يستند إليها الحكم السوري الحالي.
وعندما قدّم الشرع توصيفه للمعارك الدائرة في السويداء، بأنها تحصل «بين الأهل من البدو، وعصابات خارجة عن القانون»، إنما كان يمنح المواطنة لجهة ويمنعها عن أخرى.
وهو يعرف، أن الفصائل ليست خاضعة لإمرة عسكرية تتبع له، ولا هي تقصد ثكناته للحصول على السلاح والمال، لكنها، تجمّعات سياسية وأهلية، تعتبر أن الحكم القائم في دمشق اليوم، يمثّلها بشكل أو بآخر. وهو خلاف ما يشعر به قسم من أهل السويداء، وبعض هؤلاء، يرتكب أكبر الأخطاء، عندما يعتقد أن مبدأ الحماية، هو هدف بحدّ ذاته، وبالتالي يسقط الحرم عن هوية الحامي.
لأن مجرد الارتهان لقوة إسرائيل في مواجهة سلطة دمشق، هو انسحاق كلي، كون إسرائيل، لن تقبل بهؤلاء أكثر من مرتزقة يعملون عندها، وهو ما تفعله الآن بمعظم الدروز في فلسطين المحتلة، والذين يعانون، وسيبقون يعانون من التمييز العنصري، الذي هو أساس فكرة إسرائيل.
ولأن مشهد السويداء على هذا النحو، وكان سبقه مشهد الساحل السوري الذي لم تنتهِ فصوله بعد، فإن جهة كحزب الله، وما يمثّله من قاعدة اجتماعية لديها امتداداتها الكبيرة في سوريا والعراق ومناطق أخرى، لن تقبل أن تتخلى عن أوراق قوتها. ولن تقبل أن تكون الضحية التالية.
وتتمسّك بسلاحها، كونها أيضاً، لن تنشد الحماية، ولن تتورّط في طلب حماية إسرائيل أو أي جهة أخرى معادية للعرب ومصالحهم. وهو سبب إضافي للقول، إن ترك السلاح عمل غير عاقل ومن يقوم به مجرّد خائن.
قد يكون مفيداً، لفت انتباه القوى صاحبة النفوذ الأقوى لدى شيعة لبنان، إلى خطورة الاتكال على هذا القلق الأقلوي، لبناء سردية لحفظ المقاومة وسلاحها.
ذلك أن أكبر خطأ ارتكبه رفيق الحريري عندما صار زعيماً في لبنان، أنه نقل السنّة من وضعية الأمة إلى وضعية الطائفة. بينما كان حزب الله، ومن خلال المقاومة، ينقل الشيعة في لبنان، من وضعية الطائفة المقهورة، إلى وضعية القائم بدور الأمة، إزاء عدو كبير، يمثّله الاستعمار الأجنبي، وتقوده إسرائيل في هذه البلاد.
ومع كل ما سبق، فإن التفسير لما قاله قاسم، هدفه، أن يكون الأمر مفهوماً من قبل الجميع، حتى يحسنوا التعامل مع موقف حزب الله، وحتى يجيدوا التعامل مع ملف السلاح من الآن فصاعداً. لكنّ تبرير هذا الموقف، لا يجب أن يطغى على حقيقة، أن مقاومة الاستعمار، تمثّل عنواناً قائماً بحدّ ذاته، ولا يمكن خلطه بعناوين أخرى، حتى لا نصل إلى يوم، تضيع فيه الأولويات!