تحقيقات ومقابلات

غادر أهالي الضاحية الجنوبية لبيروت تباعًا إبان عدوان تموز 2006. وأبو أحمد بزي جالس أمام دكانه في الرويس. يسألونه: "أما تعبت من صوت الغارات؟"، يجيبهم: "مش رايح عمحل". حكاية ننقلها عن لسان الحاجة سهام بزي التي قدمت وحيدها أحمد في معركة "أولي البأس"، مستشهدين ببعض ما ذكره الشهيد أحمد بزي نفسه عن قصته.
إنها ليلة الأربعاء في آخر أسبوع من حرب تموز، توضأ أحمد كما علّمه والده منذ نعومة أظافره - أن ينام على وضوء - وغفا. شاهد في منامه أن والدته تقف في المطبخ. اقترب منها فسمع صوتًا عاليًا بلا صورة، يصرخ بأذنه: "إذا إمك وإخواتك بيبقوا بالبيت بتكون إنتَ قتلتن بإيدك".
استيقظ أحمد، على صوت آذان الفجر، توضأ وصلّى. جلس يفكر منشغل البال. "شو قصّة هالمنام؟ وكيف بدي إقنعن يضهروا من البيت؟". والده لم يقبل أن يترك منزله كل أيام الحرب. ظل يردد "لأ أموت إلا في منزلي".
استجمع أحمد نفسه ليفاتح والدته في الموضوع: "حبيبتي ماما، بترجاكي إنتِ وإخواتي ما تبقوا ولا دقيقة بالبيت، وبيي إذا بدوش يروح على مطرح، على راحتو".
وفعلًا طلبت أمه من أبيه أن تذهب مع أخواته إلى مدرسة رسمية ببرج أبو حيدر، ووافق الحاج أبو أحمد.
على الرّغم من سيل القذائف والصواريخ التي تنهمر على الضاحية الجنوبية لبيروت، كان قد رفض أبو أحمد إقفال دكّانه والنزوح من منزله، يقول لنا إنّه باق وإن استشهد، فيكون هذا قدره. لم يغادر الرويس، وصار يجلب البضاعة اللازمة لدعم الصامدين "على الدراجة النارية"، يخاطر بنفسه ليحضرها، يقول لزوجته: "اذا أنا سكرت الدكانة من وين بجيبو غراض اللي ضلّو هون؟". حتى أن الذين نزحوا كانوا يقصدونه من المناطق البعيدة لأخذ حاجتهم، نظرًا لكلفتها الزهيدة. يحضر قوارير المياه والمعلبات والعدس والبرغل والخبز، وكل ما يمكن، لدعم صمود الأهالي. حتى بات أبو أحمد الدكان الوحيد المفتوح في المنطقة، يزوّد الصامدين بحاجياتهم في النهار، ويفتح علب السردين للقطط ليلًا.
الأحد 13 آب، عند الساعة الواحد ظهرًا، عاد أحمد ليسلم على والده في الدكان. وجده يهم بالوضوء. عندما لمح ابنه بطرف عينه أغلق صنبور المياه ولم يكمل وضوءه. ركض نحوه، عانقه، وفجأة بدأ بالبكاء، وهمّ ليقبل يد والده. هربها أحمد منه وسرق من خد والده قبلة، وركض مسرعًا إلى المنزل المقابل لمجمع الإمام الحسن (ع) في رويس.
أحضر أحمد معه من العمل بعض الملابس ليغسلها. وضعهم في الغسالة وشغلها. لكنها توقفت فجأة. سمّ باسم الله، وشغلها مجددًا، فاحترقت وتصاعدت منها رائحة الدخان. أوقفها، ورمى "الغسيل" على الشرفة. ووقف أحمد وتأمّل الحي قليلًا. "مرّ جارهم أبو أحمد التيراني "عالموتو" واضعًا صحارة الباذنجان أمامه، ناده أبو أحمد، داعيًا إياه لاحتساء القهوة، فأشار إليه بيده أنه عائد.
عند الساعة الواحد والنصف، عاد أحمد إلى الدكان، ودّع والده، ودردش معه قليلًا، وطبعًا لم يخبره عن الغسالة "ما استرجا"، وذهب باتجاه استديو فوعاني في المنطقة، حيث واعد رفيقه للقائه عند الساعة الثانية من بعد الظهر. انتظر أحمد قرب الاستديو، دقائق بعد الساعة الثانية، شعر أحمد أن المباني بدأت تميل قربه، وشعر بهزة قوية، وهواء قوي، فتح كل بوابات المداخل التي باتت تتخبّط بقوة، وبات زجاج الشرفات يلامس الأرض. انفجار بعد انفجار. وضغط الهوا يرميه شمالأ ويمينًا. وبدأت تصل الشظايا مثل النار باتجاهه. احتمى وراء جدار، وصار يحاول أن يسرق النظرات. رأى مجمع الإمام الحسن (ع) يتهاوى أمامه، "لحَد ما اختفى".
بعدما انتهى القصف، صار أحمد يركض، "بيي استشهد، عالضغط كلن استشهدو أكيد". حاول الناس إيقاف أحمد من الاقتراب،. ظل يركض. وصل للدكان. صار نصف دكان، ولا أثر لوالده. أصغر شظية بالدكان هي عامود مبنى طار من المجمع. صعد لمنزله، الذي بات نصف منزل أيضًا، ولا أحد. حدّث نفسه: "يا الله لو بعدن إمي وإخواتي بالبيت شو كان صار فيهن!".
سأل أحمد شباب المنطقة عن والده: "بيك أخدوه على مستشفى السان تيريز". ركض إلى المستشفى، يسبقه قلبه. رأى والده ممدّدًا، ثيابه محروقة، ويرتجف من الإصابة. وقال له: "طول الوقت يا أحمد كنت عم قول يا علي، غير يا علي ما قدرت قول، صرلي 12 سنة بتمنى موت على وضوء، معقولة موت هلأ بلا وضوء؟".
33 يومًا لم يغادر أبو أحمد منزله، حتى بعد انقطاع الكهرباء عن البيوت، واشتداد القصف، مسطرًا أجمل حكايات الصمود والوعد بالانتصار.