مقالات مختارة

عمر نشابة-صحيفة الأخبار
تجويع غزّة ليس خرقًا للقانون الدولي فحسب، بل تجسيد لنظام إبادوي مدعوم غربيًا، يعيد إنتاج الاستعمار بوحشيته العارية ويفضح زيف العدالة الدولية.
ليس "الجينوسايد" (الإبادة الجماعية) الذي ينتهجه "الإسرائيليون" بحق الفلسطينيين في قطاع غزّة منذ 21 شهرًا، مجرّد جريمة يرتكبها جيش العدوّ تنفيذًا لأوامر صادرة عن بنيامين نتنياهو وحكومته. بل إنّ التجويع الممنهج والسكوت عنه مع استمرار الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا في دعم الكيان "الإسرائيلي"، يمثّل مظهرًا من مظاهر نزع الصفة البشرية عن مليونَي إنسان غزاوي.
وبالتالي، فإنّ ما يحصل في غزّة اليوم قد لا يكون من اختصاص المحاكم الدولية، لأنّ هذه المحاكم صُمّمت لمحاسبة دول تجاوزت القوانين التي تعهّدت احترامها (محكمة العدل الدولية)، بينما الكيان الصهيوني أُسّس، بدعم غربي مطلق، على قاعدة إبادة الفلسطينيين أو تهجيرهم وسرقة أرضهم وبيوتهم وقراهم وأملاكهم. فكيف يمكن محاسبة كيان على أساس تكوينه؟ المحاكم الدولية تحاسب الأشخاص الذين يثبت ارتكابهم جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية وإبادة جماعية (المحكمة الجنائية الدولية) بينما "الإسرائيليون" أنفسهم مقتنعون بأنهم فوق القانون (شعب الله المختار).
التصنيف الكارثي
المعلومات التي تدلّ على التجويع في غزّة، ليس مصدرها وزارة الصحة الفلسطينية (التي يعدّها الغرب جزءًا من حركة "حماس") فحسب، بل تعتمد منظّمة الأمم المتحدة منهجية التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي. وبحسب هذه المنهجية، صُنّفت منطقة غزّة بأكملها، منذ 11 أيار إلى نهاية أيلول 2025، في حالة طوارئ (المرحلة الرابعة من التصنيف المشار إليه). فحتّى لو أدخلت اليوم شاحنات الطعام وصهاريج المياه وكميات من الأدوية، لن تكون كافية لتغطية النقص الحادّ في المواد الأساسية للبقاء على قيد الحياة حتّى أيلول القادم.
أمّا في شأن تحديد نسبة التجويع في قطاع غزّة بحسب المنهجية الدولية العلمية، فإنّ 470,000 شخص (22% من السكان) في حالة كارثية (المرحلة الخامسة من التصنيف)، وأكثر من مليون شخص (54%) في حالة طوارئ (المرحلة الرابعة)، ونصف مليون شخص (24%) في حالة أزمة (المرحلة الثالثة).
حظر التجويع مجرّد حبر على ورق
يُعدّ تجويع المدنيين بموجب القانون الجنائي الدولي جريمة حرب وجريمة ضدّ الإنسانية وعملًا من أعمال الإبادة الجماعية؛ علمًا أنّ ذلك لم يكن محسومًا في القانون الدولي قبل عام 1977، إذ إنّ اتفاقية جنيف لعام 1949 كانت قد "قبلت بشرعية التجويع كسلاح حرب من حيث المبدأ".
وأصبح تجويع المدنيين جريمة حرب بموجب النصوص التالية التي تُعد بالنسبة إلى ""الإسرائيليين"" والأميركيين والأوروبيين الداعمين لـ"إسرائيل" مجرّد حبر على ورق:
1. البروتوكول الأول لاتفاقيات جنيف في عام 1977 (حماية ضحايا المنازعات المسلحة الدولية)، وذلك في نص المادّة 54 التي جاء فيها حظر "تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب"، وحظر "مهاجمة أو تدمير أو نقل أو تعطيل الأعيان والمواد التي لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين، ومثالها المواد الغذائية والمناطق الزراعية التي تنتجها والمحاصيل والماشية ومرافق مياه الشرب وشبكاتها وأشغال الريّ".
2. البروتوكول الثاني لاتفاقيات جنيف لعام 1977 (المنازعات غير الدولية)، وذلك في نص المادّة 14 التي جاء فيها حظر "تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب القتال"، وحظر "مهاجمة أو تدمير أو نقل أو تعطيل الأعيان والمواد التي لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين علي قيد الحياة ومثالها المواد الغذائية والمناطق الزراعية التي تنتجها والمحاصيل والماشية ومرافق مياه الشرب وشبكاتها وأشغال الريّ".
3. نظام روما الأساسي 2002 (نظام المحكمة الجنائية الدولية) وذلك في نصّ المادّة 8 التي تعرّف جريمة الحرب (الفقرة 25) بأنها "تعمّد تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب بحرمانهم من المواد التي لا غنى عنها لبقائهم، بما في ذلك تعمّد عرقلة الإمدادات الغوثية على النحو المنصوص عليه في اتفاقيات جنيف".
الإفلات من المسؤولية الجنائية
تتحمّل الولايات المتحدة الأميركية ودول مثل فرنسا وألمانيا وإيطاليا واليونان وبريطانيا وغيرها من شركاء الكيان "الإسرائيلي" وحلفائه، مسؤولية تجويع البشر وإبادتهم جماعيًا في غزّة؛ إذ إنّ الاتفاقية الدولية لمنع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، والتي تُعدّ جزءًا من القانون الدولي، لا تعاقب من يرتكب الإبادة فحسب، بل كذلك كلّ من "تآمر على ارتكاب الإبادة الجماعية"، وكلّ من "حرّض مباشرة وعلنًا على ارتكاب الإبادة الجماعية"، وكلّ من "شارك في الإبادة الجماعية" (المادّة الثالثة).
ولا شكّ في أنّ الدول الحليفة لـ"إسرائيل" تآمرت عبر دعمها المطلق للكيان المجرم اقتصاديًا وعسكريًا وسياسيًا وحتّى قضائيًا، وحرّضت عبر رفعها شعار "حقّ "إسرائيل" في الدفاع عن نفسها"، وشاركت من طريق إرسال السلاح والجنود والذخيرة والتكنولوجيا الحربية التي يستخدمها العدوّ "الإسرائيلي" لقتل البشر ومحاصرتهم ومنع وصول الماء والطعام والدواء إليهم.
أمّا في شأن المسؤولية الجنائية الفردية، فقد أكّد نظام روما الأساسي (المادّة 25) أنّ أي شخص "يكون عرضة للعقاب عن أي جريمة تدخل في اختصاص المحكمة، في حال قيام هذا الشخص:
- بتقديم العون أو التحريض أو المساعدة بأي شكل آخر لغرض تيسير ارتكاب هذه الجريمة أو الشروع في ارتكابها بما في ذلك توفير وسائل ارتكابها.
- بالمساهمة بأي طريقة أخرى في قيام جماعة من الأشخاص يعملون بقصد مشترك بارتكاب هذه الجريمة أو الشروع في ارتكابها".
"الشيطان الأكبر"
الإمام الراحل روح الله الخميني وصّف الولايات المتحدة بـ"الشيطان الأكبر"، بينما وصّف الكيان "الإسرائيلي" بـ"الشيطان الأصغر"، ليس فقط بسبب الدعم الأميركي المطلق للصهاينة، بل استنادًا إلى النهج المجرم المشترك بين الكيانين في إبادة البشر. فالولايات المتحدة هي كيان أُسّس على إبادة السكان الأصليين وعلى خطف شعوب من إفريقيا ونقلها بحرًا إلى "العالم الجديد"، حيث يتحوّلون إلى عبيد للرجل الأبيض.
وها قد استعادت أميركا إرثها الإجرامي عبر تولّي دونالد ترامب رئاسة الجمهورية (وهو مجرم مدان أمام المحاكم الأميركية نفسها)، وعبر دعوته الفعلية إلى تحويل غزّة إلى "ريفييرا" من الفنادق والكازينوات والمنتجعات التي يريد تشييدها فوق جثث مليوني فلسطيني، بعد قتلهم بالحديد والنار والتجويع.