مقالات

أصدر الرئيس الأميركي دونالد ترامب مطلع شهر تموز/يوليو الجاري، جملة قرارات تقضي برفع مقدار الرسوم الجمركية إلى 30% على السلع المستوردة من ست دول من بينها العراق، إلى جانب فرض رسوم بمقدار أقل على دول أخرى.
لأول وهلة، قد لا يبدو أن هناك تأثيرًا كبيرًا لذلك القرار على العراق، لا سيما وأن ترامب استثنى الصادرات النفطية، التي تشكّل النسبة الأكبر مما يصدره العراق إلى الولايات المتحدة الأميركية، وهذا تقدير صحيح إذا نظرنا إلى الأمر بصورة سطحية وعابرة، بيد أن التعمق والتدقيق، يمكن أن يوصل إلى استنتاجات ومعطيات أخرى مختلفة، لا تخرج عن سياق حقيقة أن السياسات والقرارات الاقتصادية المتّخذة من قبل أي دولة أو حكومة، لا بد أن تكون مستندة ومرتكزة إلى حسابات سياسية، أو أن الأخيرة تتبلور وتتشكّل انطلاقًا من مصالح اقتصادية، لا سيما بالنسبة للدول الكبرى، مثل الولايات المتحدة الأميركية.
وقرار رفع مقدار الرسوم الجمركية على العراق، يمكن تفسيره من زوايا متعددة. فبما أنه لم يقتصر على العراق فقط، وإنما شمل العديد من الدول خلال الشهور القلائل الماضية، لذا فإن البعض ينظر إليه على أنه جزء من سياسات وقرارات ترامب الارتجالية والمتخبطة وغير الواضحة في مساراتها وأهدافها وانعكاساتها، رغم أنها قد تعود على الولايات المتحدة بموارد مالية ضخمة تقدر بعشرات المليارات من الدولارات على المديين القصير والمتوسط.
وما يؤكد ويعزز تخبط ترامب هو تراجعه وتعليقه تطبيق بعض القرارات المتعلّقة بزيادة الرسوم لعدة شهور، مع أهمية التذكير أن رفع الرسوم الجمركية على العراق ليس فيه عوائد مالية كبيرة، باعتبار "أن حجم الصادرات العراقية النفطية - كما يقول مظهر محمد صالح المستشار الاقتصادي لرئيس الوزراء العراقي - إلى الولايات المتحدة لا يتجاوز 200 ألف برميل يوميًا، بقيمة سنوية تقترب من 5 مليارات دولار فقط، وهي تعتمد على الأسعار العالمية، وأن العراق لا يصدّر للولايات المتحدة سلعًا صناعية أو زراعية بنطاق واسع، ووارداته من الولايات المتحدة محدودة في طبيعتها، وتشمل بالأساس التكنولوجيا المتقدمة، والبرمجيات، وقطع غيار السيارات والطائرات، وتتراوح قيمتها بين 1.5 مليار و3 مليارات دولار سنويًا، وهي بدورها لا تخضع لهذه الرسوم الجمركية الجديدة".
والتفسير الآخر، يتمثل في الولايات المتحدة الأميركية، وكجزء من حربها الاقتصادية المحتدمة مع الصين، تلجأ إلى أسلوب ممارسة الضغوط على مختلف الدول التي تتعامل مع الأخيرة اقتصاديًا، لإجبارها على تقديم التنازلات وفتح أسواقها امام السلع والبضائع الأميركية، فضلًا عن ضخ أموالها للاستثمار في الأسواق الأميركية، أو مثلما يرى بعض الخبراء وأصحاب الرأي، بأن القرار الأميركي الأخير، يعد إشارة ضغط، الهدف منها إبعاد العراق عن شركائه التجاريين الكبار، وعلى رأسهم الصين.
وإذا كان الأمر كذلك فعلًا، فمثل هذه السياسة من شأنها أن تأتي بنتائج عكسية، خصوصًا وأن منهج الاملاءات والضغوط وفرض الأمر الواقع، لم يعد مجديًا بالمرة في ظل عالم بات من الصعب بمكان أن تحكمه وتتحكم به قوة عالمية واحدة. ولعل الولايات المتحدة جربت كلّ الوسائل والأساليب مع خصومها، كإيران وكوريا الشمالية وروسيا والصين وغيرها من الدول، بغرض اخضاعها، إلا أنها فشلت في ذلك أيما فشل.
والتفسير الثالث، هو أن واشنطن تستخدم أوراقها الاقتصادية ضدّ العراق لتحقيق أهداف سياسية، وقرار رفع مقدار الرسوم الجمركية يحمل دلالة سياسية أكثر من كونه قرارًا اقتصاديًا موضوعيًا.
ويربط البعض هذا القرار من حيث أهدافه ودوافعه السياسية بقرارات أخرى من قبيل إلغاء الإعفاءات من العقوبات عن استيراد الغاز من إيران، بل وحتّى قرارات صادرة من دول أخرى، مثل القرار الأخير للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بإلغاء اتفاقية تصدير النفط العراقي عبر ميناء جيهان، المبرمة بين بغداد وأنقرة عام 1973.
وعلينا هنا أن نتوقف عند ما طلبه وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو من رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني في اتّصاله الهاتفي الأخير معه قبل أيام قلائل، إذ بحسب بيان رسمي صادر عن المتحدثة باسم الخارجية الأميركية تامي بروس، "أكد روبيو على مخاوف الولايات المتحدة بشأن مشروع قانون هيئة الحشد الشعبي الذي ما يزال قيد المناقشة في مجلس النواب، مشددًا على أن تشريع هذا النوع من القوانين سيؤدي إلى ترسيخ النفوذ الإيراني والجماعات المسلحة الإرهابية التي تقوض سيادة العراق".
ومن الواضح جدًا، من خلال ما طرحه الوزير الأميركي، وما تتناوله الأوساط السياسية ووسائل الإعلام الأميركية من مخاوف وتحذيرات حيال العراق، أن لدى واشنطن توجهات معينة تريد فرضها على بغداد بأية طريقة، هذا في الوقت الذي ترى محافل سياسية عراقية في التوجّهات الأميركية، تدخلات سياسية سافرة وفجة، لا يمكن بأي حال من الأحوال القبول بها.
وأغلب الظن، لا يبتعد قرار رفع الرسوم الجمركية، وإن كان غير مؤثر اقتصاديا إلى حد كبير، عن سياق الضغوط السياسية المتمحورة حول قضايا وملفات محدّدة، ربما كان "ملف الحشد الشعبي" في مقدمتها، ولا شك أن عرقلة توزيع رواتب منتسبي الحشد، عبر فرض إجراءات عقابية أميركية على شركة (كي كارد) المصرفية، يندرج ضمن هذا الإطار.
وقد لا يخطىء من يرى أن الولايات المتحدة الأميركية، التي فشلت وأخفقت في فرض هيمنتها العسكرية والسياسية على العراق، راحت تجرب فرض نفوذها وسطوتها الاقتصادية عليه، وأكثر من ذلك تدفع بعض اصدقائها وحلفائها الإقليميين بهذا الاتّجاه، وقرار أردوغان الأخير ربما يكون خير مثال ودليل على ذلك.