مقالات

ما تشهده مناطق عدّة من سوريا منذ أشهر، هو جزء من الحرب الأميركيّة "الإسرائيليّة" الجارية على المنطقة وشعوبها، قد تتعدّد عناوينها التفصيليّة، لكن المآرب واحدة حيث تستبد الهيمنة بمفاعيل الحروب والفتن وتفكيك عرى الاجتماع السياسيّ للأقطار العربيّة. ولا يخفى على مشاهد بصير يقظ هذا الدور منذ قيام الكيان الصهيونيّ، ومنذ مجازره الأولى (1947 و1948) في فلسطين المحتلة وما تلاها من توحّش في حولا، وغيرها من قرى وبلدات جنوب لبنان وأقطار عربية أخرى.
وفي استعادة زمنيّة مقارنة، بين تمّوز 2024 وتمّوز 2025، يتّضح هذا المنحى حيث تقع "إسرائيل" على إحداثيّة استخدام واحدة في حرفتها المعهودة بالخداع والجريمة، وهي تضرب الطائفة الدرزيّة، والأرض السوريّة.
مجدل شمس والانقلاب بالفتنة
في العام المنصرم، بتاريخ السبت 27 تموز/يوليو 2024م، سقط صاروخ اعتراضيّ، على ملعب كرة قدم في بلدة مجدل شمس داخل منطقة الجولان السوريّ، التي تشكّل الطائفة الدرزيّة معظم سكانها، وتحتلها "إسرائيل" منذ عام 1967، وعرضت على أهلها الحصول على الجنسيّة "الإسرائيليّة"، إلا أن غالبيتهم رفضوا ذلك.
تسبّب الصاروخ "الإسرائيليّ" آنذاك بمقتل 12 وإصابة نحو عشرين آخرين، تتراوح أعمارهم بين 10 و20 عامًا.
سارع العدو يومها إلى توجيه الاتهام إلى حزب الله، ونصّب نفسه مدّعيًا عامًا وقاضيًا وجلّادًا، ولم يُقدم أي أدلة، وسار الغرب معه بسرديّته المخادعة، وسوّقت هذا الادعاء المُغرض بعض الفضائيّات العربيّة.
نفى حزب الله بشكل قاطع مسؤوليّته عن هذا الحادث، انتظر ساعات، لم يصدر البيان مباشرة، حتى تأكّد من جهته بعد تحقيق داخليّ دقيق أدى به إلى هذه النتيجة بالنفي الحاسم. وقد نوّه أمينه العام السيّد حسن نصر الله، أن الحزب يملك شجاعة "أن لو قصف أي مكان أن يتحمّل المسؤوليّة حتى ولو كان خطأً"، فيما استدلّ الخبراء الإستراتيجيّون العسكريّون على نفي الاتهام للمقاومة، وقدّموا فرضية سقوط صاروخ اعتراضيّ داخل مجدل شمس. لكن "إسرائيل" لم تُسلّم بهذا الأمر، رغم شواهد كثيرة على صواريخ اعتراضيّة سقطت في عكا وحيفا وفي أماكن مختلفة، أدّت إلى حرق تعاونيّات وإيقاع جرحى صهاينة.
إذًا، مع هذه الخصوصيّة بوجود الأطفال والدروز في الجولان، سارع العدو بتنسيق كامل مع الولايات المتحدة الأميركيّة إلى التزوير والتضليل باتهام المقاومة، وأعطى عنواناً للشهيد فؤاد شكر، أنّه قاتل أطفال مجدل شمس، على طريق حربه المبيّتة وأغراضه الإجراميّة، التي برزت لاحقًا في عمليّة "أسهم الشمال"، وأعماله العدوانيّة المستمرّة على لبنان وسوريا.
ثلاثة أهداف تمحورت آنذاك من هذا الاتهام، الإساءة للمقاومة وإيجاد غطاء لِقتل السيّد شكر والاعتداء على الضاحية، تبرئة جيش العدو من مسؤوليّته بإطلاق الصواريخ الاعتراضيّة ونتيجتها الكارثيّة، وإيجاد الفتنة بين أهل الجولان ومعهم كل أحبائهم من طائفة الموحّدين الدروز وبين المقاومة وخصوصاً الطائفة الشيعيّة للانقلاب على إحدى أهم نتائج طوفان الأقصى وجبهات الإسناد والمواقف المشرفة لقيادات وأحزاب ومرجعيّات مختلفة ساهمت في تجاوز المحنة المذهبيّة والطائفيّة التي عُمل على تعظيمها وتكبيرها خلال العقد الماضي.
من هذه الأهداف الثلاثة للعدوان على مجدل شمس العام الفائت، الغطاء العدوانيّ والتنصّل من الجريمة وإيقاع الفتنة، يبرز الهدف الثالث بوصفه جوهريًّا لا ثانويًّا ظرفيًّا كسابقَيْه. فإعادة الصراع الطائفيّ والمذهبيّ، هي وجهة عمل العدو، خصوصًا بعد انتهاء الحرب الجارية، وربما يكون أحد فصولها وأدواتها الأنجع في بعض مراحلها والتمهيد لأخرى.
ميزان الوحدة والمقاومة
أمّا اليوم، عندما تشاهد الأحداث في سوريا وتعطفها على المواقف المعلنة لقاطني قصر دمشق بمجرّد نجاح انقلابهم المباغت إثر تجميد المعركة البريّة في لبنان، وما تبعها من تطوّرات إقليميّة خطيرة، أهمها العدوان على الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة بوصفها قلعة المقاومة وسندها وأمل القضية الفلسطينيّة، يظهر لك هؤلاء كأداة تنفيذيّة طيّعة لمن هم وراء الكواليس، ويبدو من فلتات لسانهم شره الرهان على الحضور الدوليّ والإقليميّ، وما يعادله من تمزيق سوريا وخراب دول الجوار بسوريا.
يبدو مصب التحريض ووجهته ومضامر الاحتراز من جهات كـ"إسرائيل"، والأطماع في لبنان عناوين بيّنة بوقاحة سافرة.
لذلك، تبقى المسألة شديدة الدقّة والتعقيد، ومن المفيد والضروري، التأكيد على مشاهدة الأحداث الجارية، وبإزائها الإصغاء إلى مقاطع سيّد شهداء الأمّة في كافة خطاباته عن المسألة السوريّة وإلى جانبها التنبّه إلى التناحر الجاري على العلويّين والشيعة والدروز والمسيحيين وبعض المواطنين السوريّين الآخرين، وأيضا رصد النتائج الميدانيّة الواقعيّة للاحتلالات "الإسرائيليّة" الجديدة وضرباتها لنعلم أي واقع هو لسورية اليوم.
إذ، من الحكمة أن تُدفن بعض المعارك لصالح الوحدة وأن تفوّت الفتنة على العدو المهيمِن أميركا وربيبته "إسرائيل"، لكن في الميزان عينه، من العدل والحكمة أن تُصان كتابة التاريخ من التزوير، ولا تُستلب الإرادات للنزول على جدول أعمال المهيمِن بحيث تفتقر للمناورة أو تنخرط في تقديراته طائعة على حساب المقاومة.
تشهد سورية تناوبًا دمويًّا قذرًا بين العدوان والإرهاب لأغراض واحدة تخدم الهيمنة الأميركية. إنها المحاولة البائسة لتهشيم القوّة وتبديد اللحمة المجتمعيّة بالفتنة، نحو الاستحواذ على الموقع الجيوسياسيّ وتهميش القدرة والانقلاب على الدور. وللمرة الألف هذه هي الحضارة الغربيّة وهذا هو التوحّش الذي لا دين له ولا طائفة ولا منطقة ولا وطن إلا الحقارة، وهما وجهان لعملة واحدة اسمها استتباب الهيمنة.
من هنا، يمكن الجزم، أن تحرير سوريا من العدوان "الإسرائيليّ" والإرهاب هو شرط ضروريّ لوحدة سورية واستقرارها، وجزء صميميّ من سلامة الأمن القوميّ اللبنانيّ، والأمن القوميّ العربيّ والإسلاميّ بوجه الهيمنة الأمريكيّة-"الإسرائيليّة"، وأي تقدير آخر، يعدّ تبريرًا للمجرم الأميركيّ و"الإسرائيليّ" وإتاحة له للسيطرة والتحكّم، يلاقيه غباء الوحوش المجرمين المنقلبين على أعقابهم.
فالاقتدار دواء التعافي من التهشيم والمقاومة مبيد التهميش، لبتقى سورية ويستقر محيطها وتنتصر فلسطين على جلاديها والمتخاذلين عن وقف الإبادة والتجويع والتهجير والاستيطان والتوطين.