اهلا وسهلا...
موقع العهد الاخباري

كانت البداية في 18 حزيران/ يونيو 1984 في جريدة اسبوعية باسم العهد، ومن ثم في 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 1999 أطلقت النسخة الاولى من جريدة العهد على الانترنت إلى ان أصبحت اليوم موقعاً إخبارياً يومياً سياسياً شاملاً

للتواصل: [email protected]
00961555712

المقال التالي كلمة للشيخ قاسم الثلاثاء المقبل في الحفل التأبيني للواء "الحاج رمضان"

تحقيقات ومقابلات

حين يرث الابن دم الشهادة: حكاية نجل القائد الذي استُشهد بجوار السيد نصر الله
تحقيقات ومقابلات

حين يرث الابن دم الشهادة: حكاية نجل القائد الذي استُشهد بجوار السيد نصر الله

محمد حسن.. سليل الدم الذي أبى أن يجفّ وامتداد الروح التي لا تنكسر 
575

الشهيد هو الحقيقة الوحيدة التي لا يبهت نورها، والبطولة التي لا تنكسر أمام العواصف. هو ذاك الذي اختار الحياة بوجهها الحقيقي.. حياة العزّ والكرامة، فترك الدنيا وراءه وارتقى نحو الخلود.

الشهيد محمد حسن علي أيوب نجل القائد الجهادي الحاج علي نايف أيوب، والذي ارتقى إلى جانب الشهيد الأقدس السيد حسن نصرالله، لم يكن اسمًا عابرًا في سجلّ المجاهدين، بل كان سيرةً مكتوبة بالصدق، بالدم، بالعطاء غير المحدود. ولد من رحم الإيمان، ونما في كنف المقاومة، ومضى على خطى أبيه لا يهاب الردى ولا يرتجف قلبه أمام الموت، بل ابتسم له ومشى إليه بثبات العارفين.

استشهاده ليس خاتمة، بل بداية حكاية تُروى بفخر، عن شاب جمع بين السلاح والعلم، بين الإيمان والعمل، بين القلب الطيب والعزم الحديدي. رحل محمد حسن، لكنّه لم يُغادر.. بقي في وجدان أمٍّ صابرة، في دعاء أخت، وفي دمعة صديق، وفي وجدان كلّ من آمن أنّ البطولة لا تموت، بل تولد كلّ يوم باسم شهيد جديد.

ابن الشهادة الذي حمل البندقية والعِلم وورث المجد من أبٍ شهيد

ولد محمد حسن علي أيوب، في العام 2005، في بيت تشرّب فيه الإيمان وروح المقاومة. نشأ في بيئة محافظة متديّنة، حيث الصلاة والتكليف الشرعي والوطنية والأخلاق جزء من تفاصيل حياته اليومية.

في مدارس المهدي، تشكّلت ملامح شخصيته. وعيه الديني والوطني ازداد عمقًا، والتزامه الجهادي أخذ طريقه بثبات. وعلى الرغم من حداثة سنّه، اختار أن يوازن بين سعيه الأكاديمي – في علوم الحاسوب – وبين التزامه في صفوف المجاهدين، واضعًا هدفًا واضحًا: خدمة قضية المقاومة بسلاح المعرفة كما بسلاح النار.

كان محمد شابًا خلوقًا، تقول أم الشهيد، كما كان نسيجًا فريدًا من النقاء والقوّة. عرفه أصدقاؤه بقدرته الفريدة على إدخال الطمأنينة إلى القلوب، وبرز بين رفاقه قدوة حقيقية تجمع بين العقل والسلاح، وبين الحنان والبأس. محمد لم يكن فقط ابنًا شهيدًا لقائد شهيد حمل البندقية إلى جانب الشهيد الأقدس سماحة السيد حسن نصر الله، بل كان هو ذاته مشروع شهادة حي، يخطّ طريقه على خطى أبيه.

ابن الشهيد ورفيقه في الدرب

محمد حسن ابن الشهيد القائد علي نايف أيوب نشأ مدثّرًا بأخلاق أبيه؛ كان يرى في والده القدوة والمعلّم، وكأنّ كلّ كلمة منه هي خريطة طريق لا حياد عنها.

في حرب إسناد غزّة، اشتعل حماسه. كان قلب محمد حسن على الجبهات. طرق كلّ باب ممكن ليصل إلى خط المواجهة لمساندة غزّة، وكان يأمل التمركز في الصفوف الأمامية، لكنّه لم يُوفّق حينها. إثر العدوان الصهيوني على لبنان وانطلاق "معركة أولي البأس"، أدرك أنّ لحظة التلبية قد حانت. اتصل به مسؤوله بينما كان في بيروت، فلم يتردّد لحظة. خلال أقل من ساعة، كان في الجنوب، جاهزًا جسدًا وروحًا، يحمل عزمًا فولاذيًا والتزامًا لا يلين.

أتاه خبر استشهاد والده إلى جانب سماحة السيد نصر الله، فكان الوجع كبيرًا.. لكنّه لم يهزّ قناعة محمد حسن. لم ينسحب، لم يهن، لم يذرف دموعًا أمام الآخرين، بل تسلّح بالإيمان والتكليف. نظر إلى الشهادة على أنها طريق لا نهاية، ورأى أن عليه إكمال ما بدأه أبوه، لا أن ينكفئ تحت وطأة الفقد؛ فقد أثبت محمد أنه ابن القائد فعلًا.. 

دعوتُ له بالحفظ.. فأجابه الله بالشهادة

في فجرٍ تلفّه دموع النازحين، خلال العدوان الصهيوني على لبنان، جلست الأمّ المكلومة على سجادة الصلاة، تبثّ قلبها المكسور إلى الله، ترجوه أن يحفظ ولدها. ثلاثُة أسابيع فقط فصلتها عن وداع زوجها الشهيد، وإذا بمشاعر الخوف واليقين تتصارع في قلبها كلّما رفعت يديها بالدعاء: "اللهم احفظه؛ كما لا يحميه سواك".

لكنّ السحاب حمل معها رجع الدعاء، وطرقَ باب الفقد مرةً أخرى. جاء ابنُ العم حاملًا عبارةً كانت البرق الذي أشعل تلك اللحظة: "هنيئًا لمحمد حسن!".. لفظُ النبأ بدا كالسيف، يشقّ قلبها نصفين. توقّف الزمن، وتجدّد عندها ألم الفراق والحزن. لكن سرعان ما حوّلت دموعها إلى تسبيح، ورفعت يديها بالرضا: "الحمد لله.. لقد استجاب دعائي بطريقته، جعله في درعه الحصين، في جوار النبيين والشهداء، حيث لا ألم ولا فراق".

ضحكته لا تغيب

علاقة فريدة جمعت محمد بشقيقته الكبرى، علاقة تتجاوز السنوات العشر الفاصلة بينهما، وتختصر كلّ الحنان والرفقة. في عينيه، كانت ترى طفولةً بريئة، وفي حديثه تلمح نضجًا وحسًا مرِحًا يبدّد هموم الأيام. كانت سهراتهما تمتد بسلاسة، كأن الوقت يُختصر في لحظات ضحكٍ ودفء.

الغرفة التي فارقها محمد لا تزال تنبض بذكراه، تقول شقيقة الشهيد. تمرّ من أمامها فتتوقف كأنها تسترق سمع صوته، أو تنتظر ضحكته تنبعث من بين الجدران. ظله يسكن زوايا البيت، وروحه تملأ الصمت بطمأنينة لا توحي بالغياب.

أما أولادها، فخالهم محمد كان عالمهم السحري. كان يرفعهم على كتفيه، ويأخذهم بجولات على دراجته، ويغمرهم بمفاجآت الطفولة. بعد رحيله، باتت أسئلتهم مؤلمة لبراءتها: "متى يظهر الإمام المهدي (عج)؟ لقد اشتقنا إلى جدو وخالو محمد".

لكن لطف الله لا يغيب.. غالبًا، يستيقظ صغيرها مبتسمًا، كأنه عاد للتوّ من زيارة نورانية. "كنت مع جدّو وخالو!" يقولها بنبرة تضيء ظلمة الغياب، كأنّ السماء تمد يدها لتربت على القلوب المشتاقة، وتهمس: "هم أحياء.. يرونكم كما ترون الشمس في كبد السماء".

رحل نصف قلبي..

بقلب مشتاق يقول صديق الشهيد محمد: "هو رفيق أيامٍ لا تُعدّ، أخ الروح والنفس قبل الدم، وقطعة من الروح عاشت إلى جانبي طويلًا. كلّ لحظة جمعتنا كانت مشبعة بالصدق، غنية بالمشاعر الأصيلة، عامرة بالإخلاص الذي لا تصنعه الأيام؛ بل تولّد الأرواح النادرة".

في فجر يوم السبت، 19 تشرين الأول 2024، كنت قريبًا من موقع الغارة. كانت ضربة مزلزلة، لكنّ شيئًا داخلي سبق الانفجار.. حدس غريب، رجفة في القلب، وكأنّ الأرواح تسبق الأخبار. محمد حسن رفيقي، صديقي، أخي.. كان يلوّح لي في قلبي قبل أن يصلني النبأ.

الخبر جاء كصاعقة. لم تمضِ سوى 22 يومًا على وداع والده القائد الكبير، وإذا بمحمد يلحق به.. كأنّ الوفاء وراثة في هذا البيت. لحظة تأكيد خبر استشهاده لم تكن عادية، كانت الأرض تميد من تحتي. شعرت بأن العالم اختل، بأنني أتنفس فراغًا مؤلمًا.

مع ذلك، وسط كلّ هذا الحزن الطاغي، شعرت بيقين خفيّ: محمد لم يرحل إلا على الطريق الذي أحبّه، الطريق الذي آمن به وسار فيه منذ وعيه الأول. رحل بثبات، رحل كأوفياء هذا الدرب، كفرسانه الذين لا يبدّلون ولا يرتدّون. 
غاب محمد حسن عن العين، لكنّه ترك في قلبي بصمة لا تُمحى، وسيرة لا يطويها الزمن.

الكلمات المفتاحية
مشاركة