مقالات

في خضم ارتجاجات معركة "أولي البأس" في خريف 2024، وقفت "إسرائيل" على عتبة ما اعتبرته فرصة إستراتيجية نادرة: فرصة لإعادة صياغة الواقع الإستراتيجي والأمني في لبنان وانطلاقًا منه، وللتقدّم في مخطّط تفكيك المقاومة من الداخل عبر أدوات الضغط الناعم، وتحريك الداخل اللبناني نحو انقسام حاد. ولقد كان الرهان "الإسرائيلي" أن المقاومة خرجت من المعركة منهكة، مكشوفة، متهمة، ما يسمح بتفعيل سلاسل الضغط السياسي والإعلامي والاقتصادي لإسقاط منطق السلاح، ونزع شرعية المقاومة، ودفع الدولة إلى الانقلاب على أحد مكوناتها الأساسية.
لكن ما لم تحسب له "إسرائيل" حسابًا، أن أسطورة المقاومة تتجاوز ميادين القتال، وتُتقن فنّ الاشتباك السياسي في ميادين الموقف والمعنى والشرعية، فجاء خطاب أمين عام حزب الله الشيخ نعيم قاسم، في 30 تموز 2025، وما قبله أيضًا، تعبيرًا عن رؤية وإستراتيجية مضادة تحدد المفاهيم وترسم ملامح الموقف وتدير الاشتباك السياسي بحكمة وحزم ليصيغ معادلة داخلية هي على النقيض التام من كلّ ما سعت إليه "إسرائيل" في مرحلة ما بعد الحرب.
أولًا: حين راهنت "إسرائيل" على تحوّل المقاومة إلى عبء على الدولة رأت "إسرائيل" أن الإنهاك الاقتصادي والانهيار المالي وانفجار الغضب الشعبي ستكون فرصة ذهبية لإعادة تصوير المقاومة كعبء ثقيل على الدولة اللبنانية، فدفعت في اتّجاه تسويق خطاب داخلي يعتبر المقاومة عبئًا على الإصلاح، ومانعًا للسيادة، ومعطلًا للعلاقات الدولية. لكن خطاب حزب الله جاء ليقلب المعادلة: لم يُظهر المقاومة كعبء، بل كشريك في القرار، كمسهّل في انتخاب رئيس الجمهورية، كرافعة لتثبيت الدولة، لا كمعيق لها. وأعاد الحزب التموضع من خارج الدولة إلى داخلها، وبدلًا من أن يكون في موقع المتردّد الضعيف الذي يُملى عليه، فمن موقع المبادرة والمسؤولية والتحدي.
ثانيًا: حين راهنت "إسرائيل" على عزل المقاومة عن جمهورها كانت الإستراتيجية "الإسرائيلية" واضحة: ضرب العمق الشعبي للمقاومة عبر التحريض الإعلامي المتكرّر، والتضييق الاقتصادي، ودفع الناس إلى الانفضاض عن حاضنتهم. لكن الخطاب جاء ليعيد وصل المقاومة بجمهورها، لا بل ليوسّع هذا الجمهور. استدعى مشاهد التشييع المليوني، والانتخابات البلدية، وأداء المقاومة في الخدمات، ليقول: لسنا غرباء عن شعبنا، بل نحن منه، وبه نثبت.
ثالثًا: حين راهنت "إسرائيل" على السلاح كمصدر فتنة داخلية سعت "إسرائيل" إلى تثبيت السلاح في اللاوعي اللبناني كتهديد داخلي، كحالة خارج السيطرة، كتفجير مؤجل. لكن الخطاب جاء ليعيد للسلاح معناه الحقيقي: ليس هذا السلاح موجهًا للداخل، بل للعدو. ليس منافسًا للدولة، بل داعم لها. لا قوة تهدف إلى تجييرها داخليا، وإنما قوة دفاعية عن الوطن. لقد جعل الخطاب من السلاح شريكًا في السيادة، لا خصمًا لها.
رابعًا: حين راهنت "إسرائيل" على واشنطن كوسيط يقود لحلول مريحة اعتمدت "إسرائيل" على الغطاء الأميركي لدفع لبنان إلى القبول بالحدود التي ترسمها "إسرائيل"، سياسيًا وأمنيًا. لكن الخطاب حطم صورة الوسيط النزيه، وعرّى حقيقة أن واشنطن لم تكن ضامنًا للاتفاق، بل متواطئة على خرقه، وأن المندوب الأميركي جاء لا ليُهدّئ، بل ليصنع مشكلة، ويعيد تعريف العدو. هكذا أُخرجت واشنطن من موقع الضامن، ووُضعت في موقع الشريك في العدوان.
خامسًا: حين أرادت "إسرائيل" أن تفرض خطاب الهزيمة في مرحلة ما بعد الحرب، كانت تراهن على أن خطاب المقاومة سيكون دفاعيًا سلبيًا، مرتبكًا، محكومًا بهاجس التبرير. لكنّها فوجئت بخطاب هجومي، واثق، يعلن أن المعركة لم تنتهِ، وأن الكرامة محفوظة، وأن السلاح ليس عبئًا، بل أمانة، وأن المقاومة لا تطلب صك غفران من أحد، بل تُقدّم مشروعًا كاملًا للدولة، للإعمار، وللردع، والسيادة.
خاتمة
لقد كان خطاب أمين عام حزب الله أكثر من بيان سياسي، كان إعلانًا مضادًا لمرحلة أرادت "إسرائيل" أن تبدأها من فوق ركام الحرب، فجاء الخطاب ليمنعها من تثبيت قواعد لعبة جديدة. كلّ ما راهن عليه "الإسرائيلي" فيما بعد "أولي البأس" تم تفنيده، وتم الرد عليه بنقيضه: أرادوا مقاومة معزولة، فجاء الخطاب ليُثبتها متجذّرة؛ أرادوا سلاحًا مذمومًا، فجاء الخطاب ليقدّمه كقوة للدولة، أرادوا وصايةً ناعمة، فجاء الخطاب ليرفع راية السيادة الصلبة.
إنه خطاب لم ينتهِ مفعوله بانتهاء كلماته، بل بدأ تأثيره عند لحظة تلقيه. ففي الزمن الذي تُصنع فيه السياسات من قوة الموقف لا من عدد الطائرات، يثبت هذا الخطاب أن المقاومة ليست فقط التي تصمد في الميدان، بل التي تكتب معادلة ما بعد الميدان. وهنا، في هذا التوقيت الحاسم، تعلن المقاومة أنها لا تُهزم مرتين: لا في الأرض، ولا في الوعي.