اهلا وسهلا...
موقع العهد الاخباري

كانت البداية في 18 حزيران/ يونيو 1984 في جريدة اسبوعية باسم العهد، ومن ثم في 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 1999 أطلقت النسخة الاولى من جريدة العهد على الانترنت إلى ان أصبحت اليوم موقعاً إخبارياً يومياً سياسياً شاملاً

للتواصل: [email protected]
00961555712

المقال التالي العدوان على الدوحة العنوان الأول في الصحف الإيرانية خبرًا وتحليلًا

مقالات مختارة

سلام يكشف لبنان أمام المخاطر: إستراتيجية بلا دفاع
مقالات مختارة

سلام يكشف لبنان أمام المخاطر: إستراتيجية بلا دفاع

51

علي حيدر - صحفة الأخبار

النقاش حول الإستراتيجية الدفاعية والأمن الوطني في لبنان من أكثر الملفات السياسية حساسية، إذ يتقاطع فيه مفهوم السيادة مع أدوات الحماية والردع، ويتشابك مع بنية النظام السياسي والاصطفافات الإقليمية والدولية. والعلاقة بين "الإستراتيجية الدفاعية" و"إستراتيجية الأمن الوطني" ليست مجرد ارتباط إجرائي أو تجميع ميكانيكي بين ملفين منفصلين، بل هي علاقة تأسيس وبناء: الأولى تشكّل القاعدة البنيوية الصلبة، بينما الثانية تجسّد الإطار الشامل الذي يُبنى عليها.

هذه العلاقة تتجاوز حدود التنظيم الإداري لتكشف عن فلسفة الدولة في مقاربة المخاطر والتهديدات، وتبرز البُعد السياسي والفكري في خياراتها الأمنية. ومن هنا، يضيء فهم هذه الجدلية على الخلفيات البنيوية للقوى السياسية، وتصوراتها لدور لبنان في محيطه الإقليمي وموقعه ضمن موازين القوى.

تزامن إعلان رئيس الوزراء نواف سلام أنّه لا يطرح "إستراتيجية دفاعية" بل "إستراتيجية أمن وطني"، مع العدوان "الإسرائيلي"  على قيادة حركة حماس في الدوحة، بما حمله من دلالات رمزية وسياسية وأمنية، أبرزها أنّه نسف عمليًا الافتراض الذي رُوّج له طويلًا بأن "الاحتضان الأميركي" يشكّل مظلّة حماية أمام الاعتداءات "الإسرائيلية". ويكتسب هذا الحدث أهميته بوصفه برهانًا حيًا على فشل الرهان على المظلّة الأميركية بدل الاعتماد على المقاومة أو بناء قدرة دفاعية ذاتية. فالأمن الوطني لا يُصان بالوعود، بل بالقدرات الفعلية، ويتجلى هذا المفهوم بوضوح أكبر عندما تكون الدولة صغيرة وهشة.

حين يُصرّح رئيس الوزراء بأنّ ما يُطرح ليس "إستراتيجية دفاعية" بل "إستراتيجية أمن وطني"، يُفتح النقاش حول التسلسل المنطقي لصوغ الإستراتيجيات. فـ"الأمن الوطني" بالمعنى الواسع يبدأ بتشخيص المخاطر والتهديدات، ثمّ بلورة السياسات والأدوات اللازمة لمواجهتها. وفق هذا المنطق، تصبح الإستراتيجية الدفاعية نتيجة حتمية وتتويجًا لمسار الأمن الوطني. وعليه، فإن غياب سياسة دفاعية محدّدة يحوّل وثيقة الأمن الوطني إلى إطار إداري داخلي، عاجز عن الإجابة عن السؤال الأساسي: كيف نمنع العدوان ونردّه؟ وهكذا ينشأ التناقض العملي: إعلان أهداف كبرى بلا أدوات حماية، أي أهداف على الورق بلا حوامل واقعية.

البدائل النظرية
ويبدو أنّ رئيس الحكومة يدرك تمامًا وزن كلّ كلمة يقولها، ما يعني أنّه يتبنّى، عن وعي كامل، بدائل محدّدة عوض صياغة إستراتيجية دفاعية للبنان. وتتمثل هذه البدائل في ثلاثة مسارات رئيسية: الإبقاء على لبنان بلا مظلّة ردعية أو دفاعية ذاتية؛ الافتراض بأن الجيش اللبناني قادر وحده على القيام بالمهمّة؛ والرهان على المؤسسات الدولية أو على المظلّة الأميركية لحماية لبنان.
لكن التجربة اللبنانية والعربية، فضلًا عن دروس التاريخ القريب، تُظهر أنّ هذه البدائل الثلاثة غير قابلة للتحقق عمليًا. فلبنان، من الاحتلال "الإسرائيلي"  إلى الاعتداءات الإرهابية، مرورًا بالتحديات الإقليمية المتكرّرة، يواجه بيئة متغيرة تهدّد وجوده بشكل دوري، و"تجريده" من قدراته الدفاعية يعني، عمليًا، تحويله إلى ساحة مستباحة بلا قوة دفاعية.

أما في ما يتعلق بالرهان على الجيش وحده لأداء مهمّة الدفاع، فيكفي النظر إلى الفارق التكنولوجي والتدميري الهائل بين قدرات العدوّ وواقع الجيش اللبناني. وحتّى في حال استُبعدت التفاصيل المالية واللوجستية، يكفي إدراك أنّ الجيش يعمل ضمن بيئة معقّدة داخليًا وخارجيًا، مع نقاط ضعف تكوينية وجغرافية وديموغرافية تجعل المهمّة شبه مستحيلة. من حيث المبدأ، ينبغي لكل دولة سيادية أن تعتمد على جيشها الوطني في الدفاع عن نفسها، ولكن خصوصية لبنان، من حيث حجمه ونظامه وتوازناته وموقعه في صراع مفتوح، تجعل هذا الرهان بمثابة دفع المؤسسة العسكرية نحو مغامرة غير محسوبة النتائج.

أما المراهنة على الشرعية الدولية أو المظلّة الأميركية، فقد تحوّلت إلى مدعاة للسخرية بعد عقود من التجربة العربية مع "إسرائيل"، والدعم اللامحدود الذي تحظى به تل أبيب في سياساتها التوسعية والعدوانية. فالأولويات الأميركية في المنطقة تظلّ مركّزة على مصالحها الأمنية والإستراتيجية، وليس على حماية لبنان أو غيره. وكلّ  ظرف سياسي دولي هو ظرف متحول، قابل للانقلاب عند تغيّر المصالح المرحلية، ما يجعل من المستحيل بناء أمن وطني على أساسه.

خلفيات سياسية داخلية
في ضوء وضوح المخاطر ومحدودية القدرات، يصبح من المشروع التساؤل عن الخلفيات التي تدفع بعض القوى السياسية إلى رفض أي إستراتيجية دفاعية ترتكز على عناصر القوّة اللبنانية، وفي مقدمتها المقاومة. وهذه الخلفيات ليست موحدة، فبعض هذه القوى يتظلل بشعارات "بسط سيادة الدولة" و"احتكار السلاح"، متجاهلًا أنّ معيار الوطنية والسيادة هو بذل الجهود والقدرات الفعلية لحماية الوطن، وبعضها لا يعتبر "إسرائيل" خطرًا وجوديًا، ويرى مصلحته في التحالف معها أو الرهان على خياراتها. والبعض الآخر مرتبط بارتباطات إقليمية أو أميركية، أو ينفّذ أجندات خارجية بشكل مباشر. وهناك من يردّد هذه المقولات تحت تأثير الحملات الإعلامية والسياسية، من دون إدراك كامل للأبعاد الإستراتيجية للأمن الوطني.

وفي كلّ الأحوال، تسهم مواقف رئيس الوزراء في تصعيد حدة الانقسام السياسي اللبناني، وتُفسَّر على أنّها تبنٍّ لأجندات خارجية على حساب عناصر القوّة الداخلية للبنان، بل وكأنها تجسيد عملي لمطالب العدوّ "الإسرائيلي"  والسياسة الأميركية، التي تسعى إلى تجريد المنطقة من عناصر الدفاع والقوّة.

هذا الانتقال في النقاش من سؤال "كيف ندافع؟" إلى "من يملك القرار؟" لا يحلّ الأزمة، بل يعيد تدويرها. وإذا أُريد أن تكون إستراتيجية الأمن الوطني جادّة، فلا بدّ أن تقوم على سياسة دفاعية محدّدة بدقة (تشمل العقيدة العسكرية، والقدرات، والتمويل، والمراحل الزمنية، وتوزيع الأدوار)، وإلا فإنها تتحوّل إلى مجرد عنوان إداري لا يحمي البلاد ولا يثبت سيادتها. كما إن رفض الاستفادة من عامل القوّة الذي توفره المقاومة يُلزم الحكومة بتوضيح موقفها بجلاء: إما اختيار سياسة دفاعية تراعي إمكانات لبنان وظروفه الداخلية والإقليمية، أو الاعتراف الصريح بمخاطر فراغ الردع وما يترتب عليه من أثمان داخلية وخارجية.

فأي وطن بلا إستراتيجية دفاعية محدّدة المعالم والوسائل وعناصر القوّة الصريحة، لا يعدو أن يكون خطابًا إنشائيًا. ويزداد خطر هذا الفراغ حين يتزامن مع لحظات اختبار كبرى، كما هي الحال في لبنان اليوم، في ظل العدوان "الإسرائيلي"  على المنطقة، وتحت ضغط دولي لإعادة رسم خرائط النفوذ والأمن. لذلك، فإن إعادة تعريف الأمن الوطني لا يمكن أن تتم بمعزل عن بُعدها الدفاعي الردعي، بل تتطلب قرارًا سياسيًا جريئًا يوفق بين ضرورات السيادة ومتطلبات الحماية. وعدم القيام بذلك يفتح الباب أمام انهيار معادلات الردع، ويجعل لبنان رهينة العواصف الخارجية التي تميّز المنطقة. والدرس الأبرز من تاريخ لبنان والمنطقة هو أنّ "السيادة الفعلية" تُقاس بالقدرة على الحماية، وليس بالخطابات.

الكلمات المفتاحية
مشاركة