مقالات مختارة

وثائق دبلوماسية تكشف التزامات عون وسلام المبكرة بنزع السلاح
السعودية الأكثر تطرّفًا وتهوّرًا: واجهوا حزب الله ولا تخشوه
إبراهيم الأمين - صحيفة الأخبار
لا يزال أهل الحكم في لبنان يسيرون وفق الخطة المرسومة أميركيًا، والتي تحظى برعاية سعودية، لتلبية مطالب "إسرائيل". وما بدا أنه تعثّر في السعي إلى نزع سلاح المقاومة، ليس سوى محطة قابلة للتجاوز، مع المضي في خطوات أخرى مرتبطة بالملف نفسه: من فتح ملف قضية الفلسطينيين وتنظيم أوضاع المقاومين الفلسطينيين في لبنان، إلى الإجراءات المالية والقضائية التي تهدف إلى التضييق على حزب الله، والحدّ من قدرته على تأمين التمويل لمؤسساته أو ضخّ الأموال في برنامج إعادة الإعمار.
ومرة جديدة، وهو أمر لا بدّ من التذكير به دائمًا، فإن وقائع جلسة الجمعة الشهيرة (في 5 أيلول الجاري)، لم تكن نتيجة اقتناع، لا لدى جوزيف عون ولا نواف سلام ولا سواهما، بضرورة مغادرة مربع التفكير في نزع سلاح المقاومة، بل كانت انعكاسًا لتوازن القوى في لبنان، وإدراكًا لاحتمال انزلاق الأمور نحو مواجهة قد تطيح بالحكم القائم برمّته، لا بالحكومة وحدها. وهو ما استشعرته جهات خارجية سارعت إلى التواصل مع الجانبين السعودي والأميركي، بهدف تخفيف الضغط عن عون وسلام وإيجاد "تسوية" مؤقّتة للملف، وهو ما حصل بالفعل.
لكنّ المؤكّد، والذي ينبغي أن تعيه قيادة المقاومة قبل غيرها، وما يجب أن يعيه أكثر الرئيس نبيه بري، أن الثنائي عون وسلام لا يملكان حرية التفكير أو القرار المستقلّ، وأنهما في هذه المرحلة لا يختلفان البتة عن سمير جعجع في مقاربتهما لمسألة السلاح. أما ما يتداوله المستشارون في القصر أو بعض المحيطين برئيس الحكومة، فلا يمتّ إلى الحقيقة بصلة.
طبعًا، ثمّة قنوات تواصل نشطة هذه الفترة بين جميع المعنيين بالملف. وبعض الجهات تحاول أن تبيع المقاومة فكرة أنها منعت مجلس الوزراء من القيام بخطوة كبيرة. وهؤلاء ليسوا إلا محتالين يعملون بأساليب التضليل الأميركية - "الإسرائيلية". ومن يراجع محاضر اجتماعات رئيس المجلس مع الموفدين الأميركيين خصوصًا، يمكنه فهم طبيعة العقل الأميركي القائم على فكرة واحدة لا تحتمل النقاش: نحن هنا لنضمن أمن "إسرائيل" أولًا، ومصلحة لبنان ثانيًا.
بداية البحث في الربيع الماضي
قد يحلو لبعض أهل الحكم القول إن فكرة حصرية السلاح لم تكن مطروحة سابقًا على جدول الأعمال. بل إن بعض المقرّبين من رئيس الجمهورية يؤكّدون أن ما طرحه لا يتجاوز الدعوة إلى حوار مع حزب الله.
غير أنّ رئيس الحكومة يسعى إلى مسار مختلف تمامًا. والفكرة الأساسية لدى فريق رئيس الجمهورية تقوم على محاولة إقناع حزب الله وحركة أمل وجمهورهما بأنّه ليس على الموجة نفسها مع سلام، وأن الأخير هو من ينسّق مع أعداء المقاومة في الداخل، ولا سيما مع قائد "القوات اللبنانية" سمير جعجع، لإثارة الأمر بهذه الطريقة.
لكن، لنعد قليلًا إلى الوراء. وهذه المرّة، بالاستعانة بوثائق دبلوماسية غربية مصنّفة "سرّية"، اطّلعت عليها "الأخبار"، وبوقائع اتّصالات واجتماعات عُقدت في آذار ونيسان وأيار 2025، خُصّصت للبحث في ملف سلاح حزب الله. وإذا كان بعض الأطراف في الداخل يصرّح اليوم بأنّ عون وسلام ينفّذان جدول الأعمال الذي فُرض عليهما منذ لحظة تنصيبهما رئيسيْن للجمهورية وللحكومة، فإنّ المداولات التي جرت مع دبلوماسيين غربيين أظهرت ما هو أبعد من ذلك، إذ نقلت وكيلة الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون السياسية، روز ماري دي كارلو، أمام دبلوماسيين عرب وأجانب في لقاء عُقد في نيويورك مطلع أيار الماضي، أنّ ما لديها من معطيات يؤكّد "عزم كلٍّ من رئيس الجمهورية جوزيف عون ورئيس الحكومة نواف سلام على المضيّ في مشروع حصر السلاح بيد الدولة"، وأنه "رغم اعتراف الجميع بصعوبة هذا المسار، إلا أن الرئيس عون يحاول اقتراح صيغ مختلفة، من بينها الإستراتيجية الدفاعية، التي يؤكد أنّ حزب الله يوافق عليها شرط أن تتضمّن دورًا للمقاومة".
غير أن المسؤولة الأممية، التي كانت قد التقت على الهامش مسؤولين من الولايات المتحدة و"إسرائيل" ومن عدد من العواصم العربية النافذة، قالت في اللقاء نفسه: "لا توجد ضمانات بشأن تنفيذ القرار 1559 كاملًا، لكن هناك فرصة زمنية محدودة لتحقيق تقدّم في هذا الاتّجاه".
وأعربت عن اعتقادها بأنّ الجيش اللبناني يحرز تقدّمًا في مهمته جنوب نهر الليطاني، غير أنّ "سيطرة "إسرائيل" على مواقع في جنوب لبنان، وفرضها مناطق عازلة، وتنفيذها هجمات متتالية في عمق لبنان، كلّها خطوات تضعف قدرة الدولة اللبنانية على استعادة كامل سيادتها"، لتخلص في النهاية إلى دعوة العواصم الكبرى إلى "الضغط على "إسرائيل" للتراجع عن مسارها التصعيدي في لبنان".
في الاجتماع نفسه، حضرت القائمة بالأعمال الأميركية (السفيرة السابقة في بيروت) دوروثي شيا، التي سارعت إلى طلب الكلام بعدما شعرت بأنّ المسؤولة الأممية تُحمّل واشنطن جانبًا من المسؤولية عمّا يجري. وقالت شيا: "لقد منحت "إسرائيل" الحكومة اللبنانية فرصة للسيطرة على أراضيها"، مضيفة أنّ على الحكومة اللبنانية أن تدرك "أنّه لا يجوز السماح لحزب الله بإعادة بناء نفسه مجدّدًا". وتابعت أنّ "الولايات المتحدة تمنح الشرعية لكلّ المخاوف الأمنية "الإسرائيلية" في مواجهة تهديد حزب الله".
ومع أنّ شيا كانت على الدوام من أبرز الداعمين للجيش اللبناني ولترشيح قائده العماد جوزيف عون إلى رئاسة الجمهورية، إلّا أنّها أشارت، استنادًا إلى خبرتها في لبنان، إلى أنّ "الحكومات اللبنانية المتعاقبة افتقرت إلى الإرادة في مواجهة حزب الله، ما ساهم في إخضاع لبنان لسياسة إيران". وسرعان ما تبيّن أنّ هدف المندوبة الأميركية ليس الضغط على "إسرائيل" بل على لبنان، إذ توجّهت إلى الحاضرين بالقول: "لقد آن الأوان لكي تُقدِم جميع الدول على تصنيف حزب الله منظمة إرهابية".
وبعدما شدّد مندوبا روسيا والصين على ضرورة إقناع "إسرائيل" بالانسحاب ووقف اعتداءاتها، لفت أنظار الحاضرين أنّ المندوب البريطاني شاركهما الموقف نفسه. أمّا المندوب الفرنسي، فشرح بأنّ عدم التزام "إسرائيل" بمتطلبات الانسحاب ووقف الغارات من شأنه أن يعقّد المهمّة، قائلًا: "إن التزام "إسرائيل" بالاتفاق أمر أساسي لإضعاف سردية حزب الله، الذي يقدّم نفسه كقوة مقاومة وطنية ضدّ الاحتلال الإسرائيلي".
السعودي الأكثر تطرّفًا
ما بات معروفًا في لبنان، لكن الجميع يتجنّب التصريح به علنًا، حتّى حزب الله نفسه، هو أنّ السعودية لم تكتفِ بالتحريض المتواصل عليه والدعوة إلى نزع سلاحه، بل تسعى أيضًا إلى إسقاط تمثيله داخل مجلس النواب، وإلى الإمساك برئاسة المجلس النيابي. وفي الكواليس، تشدّد الدبلوماسية العربية والغربية المعنية بالملف اللبناني على أنّ "السعودية شريك كامل للولايات المتحدة و"إسرائيل" في برنامج نزع سلاح حزب الله".
وتشير تقارير في هذا السياق إلى أنّ التغيير في هوية الجهة المسؤولة عن الملف اللبناني داخل الرياض لم يكن هدفه فقط اختيار شخصية تحظى بثقة ولي العهد محمد بن سلمان، بل تحمل أيضًا موقفًا عدائيًا شخصيًا تجاه حزب الله، ولها علاقات وثيقة بالمسؤولين الأميركيين المعنيين بالملف اللبناني.
وردًا على سؤال عن وجود اتّصالات مباشرة بين يزيد بن فرحان و"الإسرائيليين"، يقول أحد الدبلوماسيين العرب إنّ التواصل قائم عبر أكثر من قناة وعلى مستويات مختلفة، وإنّ "تل أبيب" تراهن كثيرًا على دور الرياض في تعزيز قوة حلفائها اللبنانيين المعادين لحزب الله. وإلى جانب حزب "القوات اللبنانية" وبعض الشخصيات الأخرى المُدرجة في خانة خصوم الحزب، تعهّدت السعودية بتنفيذ برنامج يمتد حتّى مطلع ربيع 2026، لتحضير الساحة السياسية السنيّة لخوض مواجهة كبرى مع حزب الله عبر الانتخابات النيابية المقبلة. وتشير التقارير أيضًا إلى أنّ "المملكة" خصّصت موازنة مالية لهذه الغاية، لكنّها قرّرت صرفها وفق برنامج محدّد، حيث لن يُمنح أحد أي دعم إلا مقابل خدمات واضحة وملموسة.
كما أن الرياض، رغم عدم ارتياحها لشخصية رئيس الحكومة، إلّا أنّها تتصرّف معه اليوم على أنّه "رجل المهمّة" في هذه المرحلة. وقد فرضت على شخصيات سنيّة لبنانية، لم يُبدِ سلام أي اهتمام بالتواصل معها ولم يمنحها أي تمثيل في حكومته، أن تصطفّ خلفه وتتعامَل معه بوصفه الممثّل السياسي الأوحد للطائفة السنيّة في الدولة.
لكنّ هناك "تهوّرًا" سعوديًا واضحًا في ملف السلاح. ففي حين يكثر الغربيون في لبنان من الحديث عن ضعف حزب الله وعدم قدرته على قلب الطاولة، تذهب السعودية أبعد من ذلك إلى تحريض الجماعات اللبنانية على مواجهة الحزب في كلّ المنتديات، وحتّى في الشارع إذا لزم الأمر، مكرّرة القول إن "كل من يحاول مواجهة حزب الله سيكتشف أنّه ليس قويًا كما يصوّر نفسه، بل إن هناك أطرافًا تملك قوة كبيرة ستكون إلى جانب خصوم الحزب"، وهذه إشارة مباشرة ليس إلى سورية أحمد الشرع، بل إلى "إسرائيل" نفسها.
قد يكون من المناسب اليوم قول الأمور بصراحة ومن دون مراعاة أحد، ليس فقط لأن العدوّ على أهبة الاستعداد لخوض حرب جديدة ومستعدّ لارتكاب جرائم أشدّ فظاعة مما سبق، بل أيضًا لأن من يراهن على تراجع حلفاء الأعداء في الداخل، يجهل تمامًا طبيعة المتغيّرات التي طاولت ليس العقل "الإسرائيلي" فحسب، بل العقل الأميركي أيضًا. وهذه المتغيّرات برزت جليّة يوم الحرب على إيران، وعادت لتذكير الجميع بالواقع نفسه في العدوان على قطر.