اهلا وسهلا...
موقع العهد الاخباري

كانت البداية في 18 حزيران/ يونيو 1984 في جريدة اسبوعية باسم العهد، ومن ثم في 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 1999 أطلقت النسخة الاولى من جريدة العهد على الانترنت إلى ان أصبحت اليوم موقعاً إخبارياً يومياً سياسياً شاملاً

للتواصل: [email protected]
00961555712

المقال التالي قرار مجلس الأمن تثبيت العقوبات على إيران عنوان بارز في الصحف الإيرانية

مقالات مختارة

عبد القادر: عقل المقاومة الوقّاد
مقالات مختارة

عبد القادر: عقل المقاومة الوقّاد

43

جهاد السيد- صحيفة "الأخبار"

من يراجع تجربة المقاومة الإسلامية في لبنان، سيكتشف الطابع الفريد لمسارها العسكري. ومنذ انتهاء حرب تموز 2006، باعتبارها محطة فاصلة في تاريخ الصراع مع العدو الإسرائيلي، لم يكن أمام المقاومة سوى خيار واحد: إعادة البناء من جديد، ولكن على أسس أكثر صلابة وعمقًا، ما دفع قادتها إلى الغوص في تفاصيل الحرب، وتفكيك معطياتها، وتحويل الدروس إلى برامج عملية وصياغة مدرسة عسكرية مخضبة بالدماء والتجارب.

ومن المعروف في العلم العسكري، وخاصة بما يرتبط بترتيب وتوالي أعمال القيادة والأركان، أن ركن العمليات أو قسم العمليات أو مديرية العمليات – باختلاف تسمياتها في الجيوش وفقًا للمدارس العسكرية – هو المعني بتصميم وقيادة وتطبيق عملية بناء القوة وتحضير القوات المسلحة للحرب، من تدريب وتأهيل وبناء قوة وحفاظ على الجهوزية وتخطيط وغيرها، وبالتالي، وكما في باقي الجيوش والمنظمات العسكرية، تبنت المقاومة الإسلامية هذا النموذج، مُحدثة وظيفة «العمليات» في إطار جهازها العسكري، والتي تطورت من وحدة العمليات المركزية إلى ركن العمليات، ثم «المعاونية العملياتية» مع تطور وتعاظم الجسم العسكري للمقاومة.

وسط هذا المسار، لمع اسم القائد إبراهيم عقيل (الحاج عبد القادر) كأحد أبرز العقول التي تولّت مهمة إعادة هيكلة الجهاز العسكري للمقاومة، جامعًا بين الفكر العسكري الكلاسيكي وبين الإبداع المقاوم، مستفيدًا من سيل من التجارب، من معارك برج أبي حيدر والغبيري حيث تصدى مع إخوانه ببندقية وقاذف للدبابات الإسرائيلية المتقدمة نحو بيروت، وصولًا إلى قيادة العمليات المركزية في المقاومة الإسلامية وجانب كبير من جبهة الإسناد على تخوم فلسطين.

بالعودة إلى واقع الجسم العسكري للمقاومة، فإن المراقب يدرك بسهولة أن البناء المعرفي العسكري في هذه المقاومة ذو طبيعة تشاركية، أي إنه ناتج التقاء العقول والمدارس المتعاونة والمتفاعلة في إطار طبقات الجسم العسكري، من القيادة العسكرية في المجلس الجهادي، وصولًا إلى التجربة الكامنة في عقل المقاوم الرامي على المربض. وهو بناء قائم على طبيعة تراكمية، أي إن كل من يتولى مسؤولية ما يقوم بالتأسيس والبناء والتشغيل، ثم يأتي خلفه ليكمل البناء مستندًا إلى ما تم إنجازه.

وبالتالي إن أي إنجاز هو نتاج عقول وجهود وإرادات مئات المجاهدين الذين تعاقبوا على شغل المواقع القيادية والميدانية منذ انطلاقتها وإلى يومنا هذا، ولا سيما الشهيد عماد مغنية (الحاج رضوان) الباني الأساسي للجسم الجهادي، والشهيد مصطفى بدر الدين (السيد ذو الفقار) رائد مأسسة العمل العسكري، إلى الشهيد فؤاد شكر (السيد محسن) صاحب العقل الإستراتيجي، والشهيد حسان اللقيس مؤسس الذراع التقنية، وغيرهم الكثير ممن ارتقوا شهداء أو لا يزالون في الميدان.

بعد حرب عام 2006، أُسندت إلى الحاج عبد القادر مهمة إعادة هيكلة الجسم العسكري القتالي في المقاومة الإسلامية، فكان من الذين قادوا عملية استخلاص الدروس والعبر من تلك المواجهة المفصلية، حيث أشرف بشكل مباشر على مراجعة شاملة لتجربة الحرب، بدءًا من توثيق مجرياتها، وصولًا إلى تحليل أداء الوحدات، ورصد نقاط القوة والخلل، وترجمتها إلى خطط تطوير ملموسة، وعبر فهمه العميق لوظائف ركن العمليات كما ترد في العقائد العسكرية التقليدية من تخطيط، وإشراف، وبناء قوة، وتحقيق للجاهزية، حوّل الحاج عبد القادر هذا الركن من دائرة تنفيذية إلى عقل ديناميكي يقود عملية نهضة إستراتيجية كاملة، جعلت المقاومة أكثر صلابة واستعدادًا للجولات المقبلة.

درس الحاج عبد القادر الفيلسوف والقائد الصيني المشهور «صن تزو»، واستخلص من كتابه «فن الحرب» جوهر المباغتة وأهمية «معرفة العدو». كما استفاد من فكر المنظر البريطاني العسكري ليدل هارت، لجهة مبادئ «التقرب غير المباشر» حيث لا يواجه العدو في أقوى نقاطه، بل يفتح فجوات تكتيكية ويحسن استغلالها على المدى الطويل. وأعاد تعريف نظريات الجنرال كارل فون كلاوزفيتز، خصوصًا مفهوم «الاحتكاك»، استنادًا إلى «اللاتماثل» بين المقاومة والعدو.

لم يتوقف جهد الحاج عبد القادر عند النقل أو التكييف والتبني، بل أبدع في إنتاج نظريات عسكرية خاصة تجمع بين ما أسماه «القتال الإسلامي»، حيث تسود القيم الروحية، وبين مفاهيم التخطيط الحديث، ساعيًا إلى تأصيل نظري وعملي لـ«مدرسة عسكرية إسلامية» خاصة بالمقاومة الإسلامية، تستند إلى المعنويات والإيمان الحقيقي، وتتجلى في الحرب غير المتماثلة، والشبكة الميدانية المتكاملة للقتال، ومديات الاشتباك، ونظرية تشغيل القوات الخاصة، وغيرها.

لقد كان الحاج عبد القادر أحد الآباء المؤسسين لنظرية «قتال البقعة»، الذي يقوم على بناء وحدات مكتفية ذاتيًا بالذخيرة، المعلومات، وحرية القرار، إذ تستمر بالقتال بمعزل عن محيطها وتبقى فاعلة حتى في حال انقطاع الاتصال بالقيادة. هذا المفهوم عزّز صلابة البنية القتالية ومنحها قدرة البقاء والصمود تحت أقسى الظروف.

وعبر فهمه لنظام معركة العدو الإسرائيلي ومتابعته اللصيقة لتجاربه على مدى أكثر من 40 عامًا من الصراع، فطن الحاج عبد القادر إلى أهمية تدريب تشكيلات المشاة والقوات الخاصة في المقاومة على «القتال المنعزل»، وابتدع فكرة تخالف المعمول به في الأنظمة التدريبية في العالم حين أقرّ إعطاء العنصر جرعة معرفية تخوّله التخطيط للأعمال الفردية والجماعية الممكنة دون الحاجة إلى الرجوع إلى القيادة.

لقد استطاع الحاج عبد القادر أن يبتكر صيغة فريدة من نوعها في التفكير العملياتي تقوم على دمج نظريات القتال الكلاسيكية التي تنظم الجيوش الحديثة مع تكتيكات قتال العصابات المرنة والمتحركة، إذ لم يعد هناك فاصل صارم بين الحرب النظامية والحرب غير النظامية، بل تداخل محسوب أنتج ما بات الأميركيون يسمونه لاحقًا «الحرب الهجينة».

وفي الوقت الذي كان فيه المنطق العسكري التقليدي يربط استخدام المدفعية الثقيلة أو الصواريخ الموجهة بعقيدة الجيش النظامي فقط، عمد الحاج عبد القادر إلى توظيف هذه القدرات ضمن أطر صغيرة وموزعة تعمل بطريقة لامتماثلة، حيث تتحول قاذفات الصواريخ والمدفعية الميدانية إلى أسلحة إسناد لوحدات المشاة النخبوية التي تنفذ الكمائن والإغارات.

إن هذا الدمج بين الانضباط الكلاسيكي والمرونة اللامركزية أعطى المقاومة الإسلامية قوة مضاعفة، وحوّل بنيتها من مجرد تشكيلات صغيرة مقاومة إلى قوة عسكرية هجينة قادرة على استنزاف جيش متفوق تقنيًا.

وقد برزت نتائج هذا النهج واضحة في الاشتباكات التي خاضها المجاهدون مع بدء العدو عملياته البرية في معركة «أولي البأس»، حيث بادروا إلى الإغارة، ونصب الكمائن، والاشتباك مع العدو في بيئة معزولة وفي إطار قتال مشترك مخطط، فحين كانت مجموعات المشاة تشتبك مع لواء «غولانيط» في قرية شمع، كانت مجموعات «ضد الدروع» تستهدف الميركافا في حامول و طير حرفا و الضهيرة. كذلك عندما اشتبكت مجموعات المشاة مع ألوية العدو المتقدمة إلى مدينة الخيام، كانت الصواريخ و المسيّرات تنهمر على خلفية القوات المتقدمة في المطلة ووادي العصافير، فكان ما أسماه العدو «حدثًا أمنيًّا صعبًا» في عيترون وعديسة وشمع وطير حرفا والخيام ومركبا وبيت ياحون.

لقد آمن الحاج عبد القادر بأن المعركة مع هذا العدو متعددة الأبعاد، وكان يؤكد ضرورة التوازن في التحضير لخوضها بكل أبعادها، لا في البعد العسكري حصرًا، وإنما في البعد الروحي والمعنوي والوعي. فقد أولى الجوانب المعنوية اهتمامًا بالغًا، وكان يشدد على ضرورة افتتاح أي درس أو محاضرة بفقرة دينية – معنوية - ثقافية تشكل مدخلًا لمادة الدرس، كما اعتبر أن بناء الروح القتالية هو حجر الزاوية في أي نصر، فأشرف بشكل مباشر على مشروع سلسلة «أسرار التحرير الثاني»، حيث أعاد صياغة سردية الانتصار على الإرهاب الذي كان يهدد لبنان في جرود البقاع بأسلوب يجمع بين التوثيق الدقيق والرسالة التعبوية.

اهتم الحاج عبد القادر بشكل شخصي بـ«متحف بعلبك الجهادي» في مدينة بعلبك، الذي لم يكن مجرد عرضٍ مادي، بل مساحة رمزية لتعزيز الثقة والانتماء الشعبي للمقاومة. وكان مصرًّا بشكل كبير على أن تُرفق كل آلية من غنائم العدو يتم عرضها في المعرض، ببطاقة تعريفية تتضمن مواصفاتها الفنية، استخداماتها التكتيكية، ومصدرها، في إطار حرصه على نشر الثقافة العسكرية المجتمعية. كما تابع بشكل شخصي كل تفصيل وصولًا حتى إلى التصميم والألوان والرسائل المعنوية المطلوب إيصالها.

حبّه لنشر العلم والمعرفة دفعه إلى تخصيص وقت من جدوله المكتظ لتقديم محاضرات نوعية في مستويات متعددة داخل الحزب، من الكوادر الميدانية إلى القادة العملياتيين. كان مؤمنًا بأن بناء القوة يبدأ ببناء العقول، وقلما تجد مجاهدًا أو ضابطًا ميدانيًا في المقاومة لم يحضر ولو مرة درسًا أو محاضرة للحاج، رغم إدراكه للبعد الأمني والإرهاق الجسدي... وهو المعروف بالرجل الذي لا ينام.

بكل ما تحمله الكلمات من عرفان، سيبقى الحاج عبد القادر مدرسة متفردة، لم تكتفِ بترك بصماتها على مسار المقاومة فحسب، بل على الفكر العسكري الحديث بأسره، و ستشكل أفكاره ونظرياته ومن معه من شهداء قادة ومجاهدين منارة ومنهاجًا في إطار المسار الحتمي للتعافي و البناء.

* أحد كوادر المقاومة

من رفاق الشهيد إبراهيم عقيل

الكلمات المفتاحية
مشاركة