مقالات

في ذروة الصراع مع عدو حضاري وأيديولوجي وإحلالي، لا تكفي قراءة الأعمال العسكرية كوقائع منفصلة عن نسقها السياسي والفكري. فالأمن هنا ليس مجرد هدف لإجراءات دفاعية بل أداة سياسية تُستغَل لإحداث تغييرات جغرافية واجتماعية وإستراتيجية. عندما تتحول المطالب الأمنية إلى غطاء لمشاريع سياسية أوسع -تتمثل في تقويض بنى الحياة المدنية وإعادة تشكيل المشهد الديموغرافي والسياسي- نكون أمام عملية مدروسة تتعدى حيز العمليات العسكرية لتصبح إستراتيجية تغيير واقع. المقاربة المفهومية هذه تضع سلوك العدوّ ضمن إطار أوسع: استخدام الأمن كشرط شرعي لتمرير سياسات توسعية، وتحويل الضحية إلى متهم أخلاقي وميداني عبر حملات دعائية متزامنة، الأمر الذي يستدعي قراءة متكاملة تربط بين البُعد الإعلامي والسياسي والميداني.
إعادة صياغة وتحليل مستكمل
ما شهدناه في جنوب لبنان وما قد نشهده في الأيام اللاحقة، ليس موجة اعتداءات عشوائية بل هو تنفيذ لخطة متكاملة تهدف إلى إضعاف قدرات المجتمع المدني وتفكيك عناصر الاستقرار المادي والمعنوي فيه. استهداف جرافاتٍ، مخازن مازوت، شبكات مياه ومنشآت أساسية مثل معامل الإسمنت، بالإضافة إلى بث أجواء رعب يومي عبر هجمات متقطعة وموزعة، كلها عناصر تعمل معًا على إحداث شلل اقتصادي واجتماعي. هذا الأسلوب يُعرّف بعناية: ضرب الوسائل التي تُبقي الحياة اليومية مستمرة بهدف خلق حالة ضغط متزايد تؤدي إلى استياء شعبي وتآكل الدعم المحلي للمقاومة.
تُستخدم الوسائل الإعلامية والسياسية لدعم هذه الحملة، عبر محاولات منهجية لإعادة تأطير الضحية كمصدر للخطر، والعكس بالعكس: تصوير المعتدي كمدافعٍ أو مُنقذٍ. هذه السردية لا تعمل بشكل منفصل عن العمليات الميدانية؛ بل تكملها وتشكّل شقًا أساسيًا في نجاح الانتقال بين مراحل المشروع. فالانتقال من مرحلة "أمنية" إلى "سياسية/جغرافية" يتطلب تمهيدًا إعلاميًا يبرر الإجراءات ويُقنع جزءًا من البيئة المحلية والدولية بضرورة تغيير الواقع القائم.
في تل أبيب، ثمة رهانات على أن الضغوط المعيشية والنفسية قد تؤدي إلى تصدعٍ في روابط الدعم الشعبي للمقاومة، وأن دعاوى "تسليم السلاح من أجل الخلاص" قد تجذب بعض القطاعات أو شرائح بفعل ضغط الاعتداءات. لكن هذه الرهانات تتجاهل عاملين مهمين: أولًا، طبيعة الوعي الجماهيري في المناطق المتأثرة والوعي التاريخي والارتباط الشعبي بالمقاومة كمصدر للحماية والكرامة. ثانيًا، يُظهر التاريخ السياسي أن التفريط في عناصر القوّة الدفاعية أمام اعتداء خارجي غالبًا ما يُترجم إلى تفاقم الشروط الأمنية والسياسية، ويجعل المجتمع عرضة لمخاطر وجودية لا تقل خطورة عن الخطر العسكري المباشر.
مع ذلك، المؤكد أن خيارات المقاومة محكومة بمبدأ الاستمرارية في التمسك بقدرتها العسكرية كأفق لا تفاوض حوله، مع إبقاء الباب مفتوحًا أمام مرونة تكتيكية وسياسية داخل هذا السقف. هذا الموقف لا يعني تعطيل كلّ أشكال الحوار أو الحلول السياسية، بل يعني أن أي نقاش حول مستقبل السلاح أو البناء الأمني يجب أن يُبنى على ضمانات حماية حقيقية للمدنيين، وعلى مقاربة شاملة تؤدي إلى حماية لبنان وليس إضعافه عبر تجريده من خط الدفاع الأخير عن كيانه وهويته.
ما يجري في جنوب لبنان ليس مسألة نزاع مؤقتة بل استحقاق تحليل إستراتيجي يربط بين البعدين الميداني والإعلامي والسياسي. استخدام الأمن كستار لسياسات تقويضية يُمثل نمطًا إستراتيجيًا يحتاج إلى قراءة واعية من الداخل والخارج. في مواجهة ذلك، لا يكفي التمسك بردود فعل عسكرية فحسب، بل يلزم تكثيف الجهد السياسي والاجتماعي والإعلامي لتفنيد السرد المعادي، ولتعزيز صمود المجتمعات المتأثرة عبر حماية البنى الأساسية ورفع مناعة المجتمع المدني. إن استجابة المقاومة التي تضع سلاحها كخط دفاع أساس لن تتناقض بالضرورة مع استعجال مداخل سياسية إن وُفرت ضمانات حقيقية للأمن والاستقرار؛ لكن أي مسار لا يضمن الحماية الفعلية للسكان ولقدرة المجتمع على البقاء سيكون مشروعًا قاتمًا يعرض الوجود نفسه للخطر. لذلك، يبقى الخيار الوطني الحقيقي مبنيًّا على توازن بين قدرة دفاعية قائمة ومرونة سياسية مدروسة تُحكمها نوايا صادقة لشركاء الداخل والخارج، مع التزام بحماية منظومة الحياة لأفراد المنطقة وكرامتهم.