تحقيقات ومقابلات
حسن حجازي.. الشهيد الفاطمي الذي عَبَرَ نحو السماء
"جهاد هاشم".. حكاية قلبٍ تعلّق بالسماء
تُشرق الحكاية حين يولد في الناس من يشبه الفجر في صفائه، والريح في عزيمتها، والنور في حنانه. رجالٌ لا تحدّهم الأرض ولا تُقيدهم الأيام، يكتبون سيرهم بمداد الإيمان، ويتركون خلفهم عطرًا لا يزول. من بلدة المروانية خرج شابٌّ حمل في عينيه وعدًا، وفي صدره يقينًا، وفي خطاه طريقًا نحو البأس الأول.. إنّه الشهيد حسن علي حجازي المعروف باسم "جهاد هاشم".
الشهيد حسن هو أحد أبطال "قوة الرضوان"، والذي ارتقى في محور العديسة - الطيبة خلال معركة أولي البأس، مسطّرًا بدمه أروع صفحات البطولة والإباء. وُلد في الثالث من تشرين الثاني/نوفمبر في العام 1990، مضى على خطّ المجاهدين الأوائل، مؤمنًا بأن الأرض لا تُروى إلا بدمٍ طاهرٍ يهبها الحياة. وفي الحادي والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر في العام 2024، نال شرف الشهادة، فكان رحيله شروقًا جديدًا في سماء الجنوب، حيث تختلط الدموع بالفخر، وتُزهر الحقول بعبق التضحيات.
كانت والدته فاطمة هاشم تراه منذ طفولته قطعةً من الرحمة، مطيعًا بارًّا هادئًا كنسيم الصباح. لم يُسمع منه شكوى، ولا اشتكى منه أحد. كتومٌ لا يبوح بما يثقل قلبه، وإذا انزعج صمت. كلّما احتاجت إليه وجدته أمامها، لا ينتظر طلبًا، بل يسبق الحاجة بعطائه. عاش محبًّا لأصدقائه، مولعًا بالرياضة، يعشق كرة القدم حتّى صار مدرّبًا للأطفال في إحدى الأكاديميّات، وكان يزرع فيهم حبّ الحياة والبسمة كما يزرع المدرب الأمل في عيون لاعبيه الصغار.
حين قرّر أن يسلك طريق الجهاد، لم تُبدِ الأم خوفًا، بل رضىً يليق بأمّ عرفت أنّ أبناءها وُلدوا على درب العزّة. كانت تُعدّ له أغراضه بنفسها، وتدعو له كلّما مضى إلى عمله، وهو يبتغي منها الدعاء بالشهادة، كأنّه يسمع نداءها في قلبه قبل أن تنطق.
وحين جاء يوم الفقد، وأُخبرت عن انقطاع الاتّصال به، أدركت أنّه نال ما كان يسعى إليه. وعندما وصلها خبر استشهاده، سجدت لله شكرًا، يغمرها الفخر والعزّ، تردّد في قلبها: الحمد لله ربّ العالمين.
نخجلُ سيّدتي إن قابلناكِ بضلعٍ سليم
تقول أخته منى حجازي: "كلّما يُذكر اسم حسن أمامي، تتكوّن في خاطري صورة كسر الضلع ومصيبة السيّدة الزهراء (ع). كان عاشقًا لها، لا يترك مجلسًا من مجالسها، يقصد بيروت لحضور العزاء، وكتب في وصيّته كلامًا عنها يجعل القلب يطأطئ خجلًا: نخجلُ سيّدتي إن قابلناكِ بضلعٍ سليم، ونحنُ شيعتُكِ ومحبّيكِ". كان من يراه يقول: هذا فاطميّ في خُلُقه، فاطميّ في روحه، فاطميّ في صمته ودمعته".
تروي منى مواقف كثيرة لا تُنسى، وتقول: "كان يتصل بي كلّ يوم إن كان يملك هاتفًا، وإن حضر إلى البلدة قصدني مرارًا، يسأل عني وعن أبنائي، يلاعبهم ويضحك معهم. كنت موضع ثقته وأمان أسراره". وتضيف: "في السابع والعشرين من أيلول طلبتُ منه أن يُحضِر لي شيئًا من منطقة قريبة من الضاحية الجنوبية.. لبّى الطلب، وفي طريق العودة وقعت الغارات أمام عينيه. اتصلت به بقلق، فأجابني بهدوئه المعتاد: "كان راح الغرض عليكِ، الضربة طلعت إدامنا". كان يحمل همّ الأمانة أكثر من حياته".
كما ترى منى أنّ مسؤولية أخت الشهيد أن تكون صوته، تروي وصاياه وتنقل أخلاقه بين الناس، ليبقى أثره نبراسًا للأجيال. وتوصي أبناءها بزيارة ضريحه، مؤكدةً أنّ: "الشهيد لا يموت، بل يُخلّده التاريخ، لأنّه حيٌّ يُرزق".
شهيدٌ حيٌّ ينتظر إذن العبور
أما أخوه حسين حجازي، فيقول: "كنا نناديه حسّونة. كانت علاقتنا مميزة، وكان يستشيرني في أمور كثيرة. لم يكن يتحدث عن عمله قط، حتّى إنّي كنت أفاجأ بعد كلّ مدة بخبر بطولاته من رفاقه. كان مختلفًا عن الجميع بعشقه لأهل البيت (ع)، لا تفوته المجالس الحسينية. تعلق بالسيدة رقية، وعاش هيامًا روحيًا مع السيدة الزهراء (ع)، حتّى كأنّها هي من اختارته ورفعته إلى مقام الشهداء".
ويضيف حسين: "ترك لنا وصيتين: خاصةً لأهله، وعامةً لنا جميعًا، يدعونا فيهما إلى استكمال المسيرة وحفظ النهج مهما كانت التضحيات. اليوم أقول له: "لا تنسانا، وإنّي أعلم أنّك لن تنسانا أبدًا. سنربي أبناءنا كما كنت تريد، على العلم والأدب الحسيني. نشتاق إليك؛ لكننا نعلم أنّك اليوم في مكانٍ أجمل، كنت شهيدًا حيًّا ينتظر إذن العبور فقط".
من أراد مجاراة العدوّ فليبدأ بنفسه
أما ابن أخيه علي حجازي، فيروي بعين الاعنزاز: "كان عمي أبي الثاني. يأخذني إلى ملاعب الكرة، نشاهد المباريات معًا، أفتخر به أمام أصدقائي وأتحدّث عن أخلاقه وحنانه واستشهاده. علّمني أن القوّة علمٌ وجهاد، وأن من أراد مجاراة العدوّ فليبدأ بنفسه. أقول له اليوم: "اطمئن يا عم، سأكون كما أردت، لن أفوّت مجلسًا حسينيًا، وسأسير على دربك الذي بذلت فيه حياتك".
وهكذا، يظلّ الشهيد حسن علي حجازي (جهاد هاشم) صفحةً من نور في سجلّ الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، لم يبدّل ولم يحنث بوعده، ومضى ثابت الخطى، هادئًا كما كان، إلى حيث لا تعب ولا خوف ولا فراق.. فمن عرف طريق الزهراء (ع) عرف كيف تكون الشهادة طريقًا إلى الخلود.