عربي ودولي
نشر موقع "ميدل إيست آي" مقالة للكاتبة سمية الغموشي، أكدت فيها أن التسريبات الأخيرة في قضية جيفري إبستاين أعادت النقاش حول البحث في آلية عمل القوّة الأميركية وسيطرة شبكات النفوذ الأجنبية عليها. وتذهب الكاتبة إلى أن القضية لا تكشف فقط سقوط إبستاين، بل تُسلط الضوء على "المثلث الشرير" المتكون من المال والسياسة والجنس، والذي يؤدي خيطه المركزي إلى شبكة نفوذ أجنبية أتقنت السيطرة على الدولة الأقوى في العالم (الولايات المتحدة) عبر الإغواء، والاعتمادية، والاستيلاء.
إبستاين: واجهة جهاز أمني للفساد والسيطرة
تعتبر الكاتبة أن إبستاين كان مجرد واجهة، حيث لعب دور "الوجه الاجتماعي" لجهاز أمني مُصمم للفساد والفضائح والسيطرة. وتُشير إلى أن شبكة إبستاين لم تكن صدفة، فأقرب المقربين منه، وهي غيسلين ماكسويل، هي ابنة روبرت ماكسويل الذي تُشير معطيات قديمة إلى تعاونه الوثيق مع الاستخبارات "الإسرائيلية".
كما تُوضح المقالة أن استثمارات إبستاين تدفقت إلى مشاريع قادها رئيس الوزراء الصهيوني الأسبق إيهود باراك، مُشيرةً إلى أن الأخير زار إبستاين مرات عدة. وتلفت إلى أن باراك كان يرأس شركة "كارباين" (Carbyne) "الإسرائيلية" المتخصصة في التكنولوجيا والأمن، والتي قام إبستاين بتحويل الأموال إليها.
النخب الأميركية وحارس البوابة
تُتابع الكاتبة بأن التسريبات تكشف عقلية النخب الأميركية "في عالم إبستاين". وتُظهر الجداول ورسائل البريد الإلكتروني، أن هؤلاء الرجال لم يتعاطوا مع إبستاين على أنه شخص خطير أو منبوذ، بل على أساس أنه "طرف ندِّي" و"حارس البوابة".
وتُرجع الكاتبة هرع النخب وراء إبستاين إلى وقوف الأخير على مفترق طرق بين الثروة المالية، والاستخبارات، و"التدليل النخبوي". وتعتبر أن إبستاين تحول إلى وجه "أخطبوط استخباراتي مترامي الأطراف"، وأن النخب تعمّدت الدخول في فلكه، حيث كانوا يُدركون أنه يمكن أن يُقدم لهم ما لا تستطيع حتّى الرئاسة تقديمه، مثل: الحصانة، الوصول، التساهل، ورعاية لوبي أجنبي أتقن فنّ الاستيلاء على الدول عبر تلبية "شهية الحكام".
وتُشدد المقالة على أن هذا الفساد الأخلاقي وتوق النخب إلى الرذائل دون مواجهة العواقب هو ما سهّل عملية السيطرة عليهم، فـ "الرجل الخائف من أن يُكشف لا يستطيع قول كلمة لا".
"إيباك": الأداة العلنية للمساومة وبناء النفوذ
على الرغم من أن إبستاين كان أداة سرية خلف الكواليس، فإن الكاتبة تُشير إلى لوبي "إيباك" (AIPAC) الذي يعمل في العلن. وتُقارن بينهما. ففي حين أن إبستاين هو "الأداة السرية النفسية والمُساومة لبناء النفوذ عبر استغلال "شهية النخب""، فإن
إيباك تعتبر "الأداة العلنية المالية والتشريعية التي استولت على الكونغرس عبر المال". وتُؤكد أن الجهتين معًا شكّلتا التركيبة ذاتها.
وتُشير الكاتبة إلى أن "إيباك" دفعت ما يزيد عن 53 مليون دولار للانتخابات الأميركية في عام 2024 وحده، حيث دعمت 361 مرشحًا من كلا الحزبين الجمهوري والديمقراطي.
على الرغم من قوة اللوبي، تتحدث الكاتبة عن تحول في المشهد السياسي الأميركي، وعن تصدع سمعة "إيباك" كقوة لا تُقهر. وتُدلل على ذلك بعدة مؤشرات أبرزها؛ انهيار رحلات الكونغرس، إذ تتراجع الرحلات السنوية التي تُنظمها "إيباك" لأعضاء الكونغرس إلى الأراضي المحتلة. فبينما شارك عام 2023، أربعة وعشرون مُشرّعًا ديمقراطيًا في ولايتهم الأولى، شارك هذا العام 11 فقط من أصل 33، مع انسحاب سبعة مُشرّعين في اللحظة الأخيرة.
رفض التبرعات: رفض بعض المُشرّعين التبرعات المالية من "إيباك"
ومن المؤشرات أيضًا "رفض الناخبين"، إذا يُفيد المعهد العربي الأميركي بأن نيل تأييد مجموعات موالية لـ"إسرائيل" من المحتمل أن يؤدي إلى خسارة الأصوات بدلًا من كسبها، خاصة بين الشباب والكتل الناخبة التي تميل نحو الحزب الديمقراطي.
وكذلك لفتت الكاتبة إلى مؤشر آخر مهم، اصطلحت عليه تعبير "هجوم علني"، وقالت "بدأ مُذيعون ومُقدمو برامج يتحدون السياسيين على الهواء، وحتّى جمهوريون مثل تاكر كارلسون، ومارغوري تايلور غرين، وتوماس ماسي أصبحوا يهاجمون "إيباك" علنًا.
وتُشير الكاتبة إلى أن اللوبي الذي كان "يُثير الخوف أصبح عبئًا"، وأن "شارة القوّة أصبحت رمزًا للضعف"، في إشارة إلى تغير القواعد السياسية التي سادت قرابة خمسين عامًا.
تكمن المفارقة، وفقًا للكاتبة، في أنه بينما قد تنهار "شرعية" اللوبي المؤيد لـ"إسرائيل" في الداخل، فإن قبضته على السياسة الخارجية لا تزال متينة. فـ "النفوذ لا يزول لمجرد أنه أصبح غير محبوب". وتُؤكد أن الرأي العام يمكن أن يتغير بسرعة، لكن ذلك لا ينطبق على آلة العمل، ولذلك تبقى السياسة الخارجية الأميركية متصلة بالأولويات "الإسرائيلية".
وتصف الكاتبة التداعيات الخارجية بأنها "كارثية"، حيث إن "قرارات واشنطن في العراق، ولبنان، وغزّة، وحتّى إيران لم تخدم المصالح الأميركية، بل خدمت حسابات "إسرائيل" الإستراتيجية، وفي كثير من الأحيان بأثمان باهظة للولايات المتحدة".
وتتساءل الكاتبة: "أي إمبراطورية في العالم وضعت إستراتيجيتها الكبرى في خدمة مخاوف "دولة أصغر بكثير" (أي "إسرائيل")، سوى الإمبراطورية التي تسودها نُخَب مخترقة وفاسدة ومُسيطر عليها؟"
تختتم الكاتبة بتأكيد أن تسريبات إبستاين لا تكشف عن مُفترس واحد، بل عن "نظام مبنيّ على الفساد الأخلاقي، والنفوذ الأجنبي، والهندسة الاستخباراتية، والتواطؤ النخبوي".
وتعتبر أن دونالد ترامب هو أفضل انعكاس لذلك، حيث ظهوره بمظهر الوطنية وشعاره "أميركا أولًا" ما هو إلا مسرحية، فيما الحقيقة كانت دائمًا "إسرائيل أولًا".
وتُوضح الكاتبة أن الولايات المتحدة تقف اليوم أمام سؤال لا يمكن تجاهله: "هل المسؤولون المُنتخبون هم من يحكمون البلاد، أم الشبكات الأجنبية التي تملك أسرارهم، وتُمول حملاتهم، وتستغل فسادهم؟"، وتسأل أيضًا: "كيف يمكن لبلد أن يدّعي "السيادة" في حين يمكن فضح سياسييه بهذه السهولة، وكيف يمكن لجمهورية أن تدّعي "الشرعية" فيما يتم شراء نخبها بهذه السهولة؟ متى ستُصرّ الولايات المتحدة عبر الأفعال - وليس الشعارات - على أن حكومتها ملك لشعبها وليس لـ "تل أبيب"؟"