مقالات
كثرت في الآونة الأخيرة الحوادث الأمنية في المناطق الحدودية اللبنانية المشتركة مع سورية، حيث يعتدي مسلحون سوريون بشكلٍ مستمرٍ على السيادة اللبنانية، تارةً بإطلاق النار على مواقع الجيش اللبناني، وطورًا بدخول الأراضي اللبنانية، بذريعة أنها أراضٍ سورية، دون الاستناد إلى أي وثيقةٍ تثبت ذلك.
وما يثير القلق، أن هذه الحوادث ارتفعت وتيرتها، بعد حديث الموفد الرئاسي الأميركي إلى المنطقة؛ السفير توماس برّاك، في الأيام الفائتة، عن "أن سورية ستساعد الولايات المتحدة في مواجهة تنظيم "داعش" والحرس الثوري الإيراني وحماس وحزب الله". فهل يكون الهدف الحقيقي من وراء افتعال هذه "الحوادث" هو الضغط على لبنان ومقاومته، في خطوةٍ لملاقاة الضغط الأميركي – الصهيوني على هذا البلد؟. تعليقًا على ما ورد آنفًا، يقول مرجع سياسي سوري متابع لملف ترسيم الحدود اللبنانية- السورية: "منذ أن رسم الانتداب الفرنسي خطوط لبنان الكبير سنة 1920، بقيت تلك الخطوط أقرب إلى "حدود وظيفية" لا "حدود نهائية"، فالجبال التي تشكّل العمود الفقري الجغرافي بين البقاع اللبناني وحمص السورية، كانت دومًا مجالًا مفتوحًا للتجارة غير الرسمية والتهريب والعبور الاجتماعي، فقد صُمّمت لتكون حدودًا قابلةً للتفاوض، لا للفصل القاطع".
ويلفت إلى أنه "مع انسحاب فرنسا من المشرق العربي عام 1946، ورث البلدان خرائط يكتنفها الغموض وغير قابلة للتطبيق. وقد ظلّت تلك الخرائط تُستخدم كوثائق للتهديد أو للمرافعة الدبلوماسية، لا كأدوات تنظيم للسيادة".
ويعتبر المرجع: أن "الحدود الشرقية للبنان ليست فقط جغرافيا، بل جغرافيا مسلّحة، تمتد من الشمال في منطقة وادي خالد إلى الجنوب في مزارع شبعا، مرورًا بقمم القلمون وجرود عرسال، وهذه المنطقة تمثّل خطًا جغرافيًّا هشًّا، يسكنه بشر أكثر مما تسكنه الدول".
"ففي مزارع شبعا، يتقاطع الجغرافي بالعسكري، فالمنطقة التي احتلتها "إسرائيل" عام 1967 باتت رمزًا مزدوجًا، لبنانيًّا للمطالبة بالتحرير، وسورية للمناورة السياسية، وغياب الترسيم الرسمي بين لبنان وسورية جعل هذه المزارع ورقةً مفتوحةً أمام كل الأطراف، فـ”إسرائيل” ترفض الانسحاب بحجة أنها سوريَّة، وسورية لا تؤكد لبنانيتها لتحتفظ بورقة الضغط، ولبنان يعلن تمسكه بها كجزء من أراضيه"، بحسب ما يروي المرجع.
وبعتبر أن "العودة الفرنسية إلى الملف في العام 2025 ليست مجرد مبادرةٍ دبلوماسيةٍ فحسب بل إنها إعادة تموضعٍ جيوسياسيٍ في المشرق، ففرنسا التي كانت صانعة الخرائط الأولى في بلاد الشام، تعود اليوم لتقدّم "الأرشيف" بوصفه وسيلة للتقريب بين الطرفين".
"فقد سلّمت باريس لبنان خرائط الانتداب القديمة، في خطوةٍ رمزيةٍ تُعيد الاعتراف بوظيفتها التاريخية كـ "حارسة حدود المشرق"، ففرنسا تسعى إلى ترسيخ نفسها وسيطًا محايدًا في منطقة تتقاسمها اليوم موسكو وواشنطن وأنقرة وتل أبيب".
لكن في المقابل، يعاني لبنان من ضغوط اقتصادية وأمنية تجعل من "الحدود المرسومة" ضرورة حيوية:
- للحدّ من التهريب الذي يكلّف الدولة مليارات الدولارات سنويًّا.
- لضبط حركة اللاجئين السوريين التي تحوّلت إلى ملف داخلي حساس.
- ولتثبيت السيادة القانونية في مواجهة اتهامات "إسرائيل" بأن لبنان "كيان بلا حدود واضحة"، ودائمًا بحسب رأي المرجع إياه.
ويختم بالقول: "إن الحدود ليست فقط جغرافية، بل أيضًا حدودًا بين نظامين، واقتصادين، ومفهومين للشرعية".
وعن العوائق التي تعوق ترسيم الحدود بين البلدين: تؤكد مصادر سياسية سورية، أن "الواقع الميداني لايزال معقدًا"، لافتةً إلى أن "سلطات دمشق لم تُبدِ حتى الآن استعدادًا واضحًا للانخراط في عملية تقنية "للترسيم" بإشرافٍ خارجيٍ، في ضوء تداخل الحسابات الإقليمية، على اعتبار أن بعض المناطق الحدودية مأهولة بعشائرٍ تمتد جذورها على جانبي الحدود، ما يجعل أي خط ترسيمٍ عمليًا تقسيمًا اجتماعيًا لا جغرافيًا فقط، كمنطقة الهرمل مثلًا، حيث تستغل "سلطة دمشق" التداخل الجغرافي، لاستفزار المقاومة وبيئتها، في موازاة الاعتداءات "الإسرائيلية" والضغوط الأميركية على لبنان، لدفعه إلى الرضوخ للإملاءات الأميركية- الصهيونية، بخاصة نزع سلاح المقاومة"، تختم المصادر.
في المحصلة، لا ريب من أن الدولة عندما تكون ضعيفةً، لا يمكن للحدود أن تكون منيعة، وأي ترسيمٍ لا بد أن يرتكز على إعادة بناء الدولة اللبنانية والسورية معًا، فأي ترسيمٍ لا يستند إلى بناء دولةٍ فاعلةٍ يظلّ مجرّد خطوطٍ على الورق.