مقالات
كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
من الصعب فهم السلوك "الإسرائيلي" في العامين الأخيرين من دون تفكيك عنصر مركزي يوجّه صناعة القرار في تل أبيب: الخوف العميق من الحقيقة. فليست القوّة العسكرية وحدها ما يحدد مسار الصراع في فلسطين، بل القدرة على التحكم بالسردية، وإعادة تشكيل الوعي العالمي، وصياغة خطابٍ يجعل الجلاد ضحية، والضحية عبئًا يجب التخلص منه. هذه ليست ظاهرة طارئة، بل امتداد لمدرسة سياسية كاملة، ترى أن الهيمنة تبدأ من اللغة قبل أن تبدأ من البندقية.
هنا تتبدّى خطورة ما يُسمى في أدبيات إدارة الأزمات بـ"إستراتيجية محو الآثار". فهي ليست فقط استعادة الروتين أو محاولة للعودة إلى ما قبل الكارثة، بل أداة سياسية لطمس آثار الإبادة في غزّة، وتحييد النقاش حول المسؤولية، وتحويل المأساة الأكبر في القرن الحادي والعشرين إلى خطأ إداري عابر، أو "تداعيات جانبية" لحرب ضرورية. هذه الإستراتيجية ليست بريئة، بل تشكّل محاولة لإغلاق الجرح قبل تنظيفه، وإغلاق الملف قبل فتحه، وإعادة ترتيب العالم وفق منظورٍ أحادي لا يرى في الفلسطينيين سوى ضوضاء يجب إسكاتها.
إن ارتعاد "إسرائيل" من الحقيقة ليس ردّ فعل نفسيًا، بل هو خوف سياسي وجودي من انكشاف بنية المشروع الاستعماري نفسه. فالحقيقة هنا ليست مسألة معلومات، بل تهديد مباشر للشرعية الكاملة التي بُني عليها الكيان منذ نشأته. لذلك فإن السيطرة على السردية ليست ترفًا "إسرائيليًا"، بل هي شرط لبقاء نظام القوّة القائم.
أولًا: حين تصبح السردية سلاحًا وجوديًا
شاءت "إسرائيل" أو لم تشأ، فإن 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 كان نقطة التحول الأكبر في صورتها أمام العالم منذ نصف قرن. ليس بسبب ما جرى في ذلك اليوم فحسب، بل لأن الردّ "الإسرائيلي" كشف عمق العنف المنهجي الذي حُجب طويلًا خلف جدران الدعاية الغربية.
عامان من الإبادة، 50 مليون طن من الأنقاض، أكثر من 10 آلاف جثمان تحت الركام، تدمير كلّ المستشفيات والجامعات تقريبًا، تجويع مليونَي إنسان… ومع ذلك ظلّ الخطاب الغربي الرسمي يتحدث عن "الدفاع عن النفس"، وعن "مكافحة الإرهاب". هنا تظهر السردية بوصفها جهازًا للهيمنة، وليس مجرد أسلوب إقناع.
و"إسرائيل" تدرك تمامًا أن سقوط هذه السردية يعني سقوط جزء من هيبتها الردعية. وهذا ما عبّر عنه روبرت سينجر، رئيس مركز التأثير اليهودي، حين قال إن "اعتقاد 40% من اليهود الأميركيين أن "إسرائيل" ارتكبت إبادة جماعية يجب أن يدق ناقوس الخطر". لم يقل إن ذلك يهدّد صورة "إسرائيل" فقط؛ بل يهدّد "وحدة الشعب اليهودي" نفسها. إنها لحظة انكشاف غير مسبوقة: للمرة الأولى تتصدع الرواية المركزية داخل المجتمع الذي طالما شكل الحاضنة الكبرى للسردية "الإسرائيلية".
ثانيًا: إستراتيجية محو الأثر… أو صناعة النسيان
تسعى "إسرائيل" إلى محو آثار الإبادة ليس عبر الإنكار المباشر فحسب، بل عبر إعادة صياغة الزمن السياسي نفسه. تقوم بذلك عبر ثلاث أدوات مركزية:
تسريع العودة إلى "الروتين" الداخلي
استعادة المدارس، فتح الأسواق، بث تقارير عن "تعافي المجتمع"، إنتاج استطلاعات تُظهر ارتفاع "رفاهية الشعب" إلى 7.5/10، بعد عامين من الحزن والقلق والتوتّر. هذه الأرقام لا تُقاس بميزان علم الاجتماع، بل بميزان صناعة الانطباعات. الهدف هو إقناع العالم -وربما إقناع "الإسرائيليين" أنفسهم- أن النظام لم يتصدع وأن المجتمع لم يُصَب بالهشاشة.
تعميم خطاب اللامبالاة العالمي
كما أشار سينجر، تراهن "إسرائيل" على أن انتباه العالم سيذهب إلى أزمات أخرى. "ما جرى في غزّة ليس أكثر من موجة عابرة"، هكذا تريد "إسرائيل" أن يُفهَم. إنه رهان على الزمن، وعلى تراكم الكوارث الدولية، وعلى قدرة واشنطن على تحويل الإبادة إلى بندٍ منخفض في أجندة الإعلام.
إعادة تسمية الجريمة
تسمية الإبادة بـ"عملية عسكرية". استبدال الحصار بالمصطلح المضلل "ترتيبات أمنية"، كما يحصل في الضفّة الآن. تحويل المجاعة إلى "تحديات لوجستية". هذه ليست مجرد لغة، بل عملية سياسية لمحو المسؤولية الأخلاقية والقانونية.
هذه الأدوات الثلاث هي ما يجعل السردية "الإسرائيلية" قائمة، ولكنها أيضًا ما يجعلها هشة أمام أي كشف للحقيقة.
ثالثًا: التفكك الداخلي… الحقيقة التي تُرعب تل أبيب
تتصدع "إسرائيل" من الداخل. هذه ليست مبالغة ولا أمنية عربية؛ إنها حقيقة تظهر في الدراسات "الإسرائيلية" نفسها.
51% من "الإسرائيليين" يخشون تكرار 7 أكتوبر.
60% لا يثقون بتحقيقات الجيش أو الدروس المستفادة.
600 ضابط قدّموا طلبات للتقاعد المبكر.
معدلات الانتحار في الجيش ارتفعت بشكل غير مسبوق.
الثقة بالمؤسسة العسكرية تراجعت إلى مستويات تاريخية.
70% غير راضين عن أداء الحكومة.
الانقسام الهوياتي الداخلي بلغ مرحلة تهدّد قدرة الكيان على صناعة قرار متماسك.
هذه ليست أزمة صورة. إنها أزمة بنية. ومن هنا مصدر الارتعاب "الإسرائيلي": كلّ كشف للحقيقة يفتح صدعًا جديدًا في الجدار، وكلّ اعتراف يزيد هشاشة المؤسسة التي طالما تسلحت بقداسة الأمن.
لهذا تُهندس "إسرائيل" استطلاعات رأي تُظهر أن المجتمع "تعافى" وأن الرفاهية ارتفعت، وأن المشاعر السلبية انخفضت من 60% إلى أقل من 25%. هذه ليست أرقامًا بقدر ما هي محاولة سياسية لتثبيت سردية "إعادة بناء وهم الاستقرار". فـ"إسرائيل" تعلم أن مجرد الاعتراف بالصدمة سيُسقط جوهر روايتها: "دولة قوية"، متماسكة، لا تُهزم، ولا تتأثر.
رابعًا: السردية الخارجية… حيث الخوف أكبر
على المستوى الخارجي، تخشى "إسرائيل" شيئًا واحدًا: أن يتحول ما فعلته في غزّة إلى لحظة محورية تُعيد تعريف المشروع الصهيوني أمام العالم. لذلك تتحرك على ثلاثة محاور رئيسية:
توسيع دائرة التطبيع
ليس لأن التطبيع يحقق مكاسب إستراتيجية حقيقية، بل لأنه يمنح "إسرائيل" سردية مفادها: "نحن أقوياء، لسنا معزولين، والعالم العربي يقترب". دخول كازاخستان في "مسار أبراهام" ليس اختراقًا، بل مسرحية سياسية لتثبيت رواية التوسع بدل الانكفاء.
شرعنة الإبادة عبر المؤسسات الدولية
القرار 2803 نموذج واضح: إعطاء الولايات المتحدة سلطة إدارة غزّة، وتأسيس "مجلس سلام" يرأسه ترامب، وتجاهل تام للإبادة، وتجاوز للأونروا. إنه غطاء دبلوماسي يشرعن استمرار القتل.
تحويل الصراع من قضية تحرير إلى قضية أمنية
عبر ربط غزّة بالإرهاب، وربط الفلسطينيين بالخطر، وتحويل الضحية إلى تهديد يجب احتواؤه. هذه السردية هي قلب النظام الاستعماري، و"إسرائيل" تعلم أن سقوطها سيقوّض المبرر الأخلاقي لوجودها.
خامسًا: الحقيقة التي تخشاها "إسرائيل"
الحقيقة التي ترتعب منها "إسرائيل" ليست دماء غزّة -فهي سفكتها عن سابق إصرار- بل أن تنجح غزّة في فرض روايتها. أن يُسمّى الجوع جوعًا، لا "إدارة مساعدات". أن يُسمّى القصف قصفًا، لا "أضرارًا جانبية". أن يُسمّى الحصار جريمة، لا "إجراءات أمنية". أن يُفهم أن مشروع "سياسة إلغاء الحدث" ليس سوى محاولة لطمس أثر الجريمة وجرّ العالم إلى قبول الإبادة بوصفها حدثًا قابلًا للنسيان.
"إسرائيل" تخشى الحقيقة لأنها تكشف هشاشة السردية التي بُني عليها مشروعها منذ 1948. تخاف أن يرى العالم أن "الضحية" التي تتحدث باسمها لم تعد تقنع حتّى أبناءها، وأن صورة "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط" ليست سوى غطاء لحكمٍ يقوم على القوّة العارية.
واجب مقاومة السردية… كي لا يُدفن الجرح حيًا
إن أخطر ما يمكن أن يحدث اليوم للبشرية ليس استمرار القصف -رغم فظاعته- بل نجاح "إسرائيل" في تحويل الإبادة إلى حدث عابر، إلى ملف يُغلق، إلى "تفصيل" في سيرة الشرق الأوسط. فالمعركة الحقيقية باتت معركة سرديات: هل تُكتب الحقيقة أم تُدفن؟
واجب العالم -وخصوصًا من يملك صوتًا- ألا يسمح لـ"إسرائيل" بفرض سرديتها. فالسماح بذلك ليس جريمة سياسية فقط، بل جريمة أخلاقية بحق الذاكرة الإنسانية نفسها. إن معركة الحقيقة اليوم ليست معركة الفلسطينيين وحدهم، بل معركة البشرية ضدّ نظامٍ يريد إعادة تعريف ما يمكن قبوله. فإذا نجحت "إسرائيل" في دفن الحقيقة، فإن النظام الدولي كله سيتحول إلى فضاء يسمح بالإبادة طالما تمت تحت غطاء لغوي مناسب.
ولهذا بالتحديد ترتعب "إسرائيل" من الحقيقة: لأنها الوحيدة القادرة على نزع الشرعية عنها، وإعادة فتح السؤال الجوهري الذي بُني عليه كلّ شيء منذ البداية: كيف يمكن لكيان قائم على العنف أن يستمر حين يسقط عنه قناع الأخلاق؟
الحقيقة ليست سلاحًا… لكنّها حين تُقال، تصبح أخطر من كلّ الأسلحة.