اهلا وسهلا...
موقع العهد الاخباري

كانت البداية في 18 حزيران/ يونيو 1984 في جريدة اسبوعية باسم العهد، ومن ثم في 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 1999 أطلقت النسخة الاولى من جريدة العهد على الانترنت إلى ان أصبحت اليوم موقعاً إخبارياً يومياً سياسياً شاملاً

للتواصل: [email protected]
00961555712

المقال التالي حزب الله قريبًا في السفارة البابوية.. الحوار والتواصل مستمرّان مواكبةً للمرحلة

مقالات

الواقعية حين تتحول إلى فخّ سياسي: مأزق الدولة في خياراتها
مقالات

الواقعية حين تتحول إلى فخّ سياسي: مأزق الدولة في خياراتها

82

تدخل الدولة اللبنانية في هذه المرحلة مسارًا تفاوضيًا معقّدًا مع "إسرائيل"، لا بوصفه خيارًا سياديًا حرًا، بل استجابة لبيئة إستراتيجية متشابكة يتداخل فيها الضغط العسكري والانهيار الاقتصادي والوصاية الدولية. وتقدّم الدولة هذا المسار كأداة لإدارة المخاطر، وتقليل احتمالات اندلاع الحرب، وتجنّب الانهيار الشامل الذي قد يقوّض ما تبقى من روافع الاستقرار الوطني.

غير أنّ التفاوض في مثل هذه البيئة ينطوي على مخاطر بنيوية، إذ يجري في ظل اختلال واضح في ميزان القوى، وانقسام داخلي حاد، ونظام إقليمي متقلب. ومع هشاشة مؤسسات الدولة وتعدد الفاعلين داخلها، تتزايد احتمالات انزلاق العملية التفاوضية نحو مسار استسلامي مُغلّف بشعارات "الواقعية" و"تجنب الحرب"، بدل أن تكون عملية دفاع عن المصالح الوطنية.

من هنا تبرز ضرورة اعتماد مقاربة إستراتيجية متماسكة، تعيد تعريف التفاوض بوصفه فعلًا سياسيًا منظّمًا، يقوم على وعي بطبيعة الصراع وحدود الممكن، ويحوّل اللحظة الراهنة إلى فرصة لتثبيت قواعد اللعبة لا الخضوع لمقتضياتها.

التفاوض كإدارة للصراع

في النزاعات غير المتكافئة، يصبح التفاوض أداة لإدارة الصراع لا لإنهائه. الطرف الأضعف لا يفرض شروطه، لكنّه يستطيع الحد من المخاطر إذا امتلك قدرة على ضبط الإيقاع التفاوضي والسياسي. أما التفاوض بلا رؤية إستراتيجية فيتحول إلى مناورات مؤقتة لا تُحدث تغييرًا في معادلة الواقع. لذلك يصبح وضع خطوط حمراء مسبقة شرطًا وجوديًا، لأنها لا تضمن الاحترام، لكنّها تمنع تآكل الهوية والسيادة عبر تنازلات متراكمة.

ضرورة وجود رافعات ضغط

التفاوض من موقع الضعف لا يعني الخضوع إذا امتلك الطرف الأضعف أدوات ضغط تُقلق الخصم أو تُربكه. إلا أنّ الدولة اللبنانية تتخلى طوعًا عن أهم أوراق الضغط المتاحة لها، وفي مقدمتها ورقة المقاومة، بل وتتعامل معها بوصفها عبئًا لا مورد قوة.

ورافعات الضغط ليست عسكرية فقط، بل يمكن أن تكون:

سياسية: عبر وحدة داخلية، فيما تعمّق الحكومة الانقسام.

دبلوماسية: عبر تدويل الانتهاكات، بينما تُمارس السلطة إستراتيجية خضوع.

قانونية: عبر التوجّه للمؤسسات الدولية، لكن الحكومة تُحجم عنه استجابة للاعتبارات الأميركية.

اجتماعية: عبر الاحتضان الشعبي، في حين تُمارس السلطة سياسات عقابية تطال بيئة المقاومة عبر منعها من إعادة الاعمار.

خطورة اختزال التفاوض في “تأجيل الحرب”

يتحول التفاوض إلى فخّ عندما يصبح هدفه الرئيسي شراء الوقت. فالطرف الضعيف يخشى الحرب، والطرف الأقوى يستغل الهدوء لإعادة بناء القوّة وشرعنة العدوان المقبل. هنا لا يمنع التفاوض الحرب، بل يؤجلها حتّى تكتمل الظروف التي تسمح بفرض واقع جديد أكثر كلفة.

تفخيخ المستقبل

التنازل الذي لا يقابل بمكسب متوازن أو لا يمكن التراجع عنه لاحقًا، يتحول إلى تهديد طويل الأمد لأنه يدخل في بنية النظام السياسي والقانوني. في بيئة عدم توازن القوى، يصبح التفكير بالمستقبل أهم من إنقاذ اللحظة الراهنة؛ إذ قد يخفف التنازل خطرًا آنيًا لكنّه يؤسس لأزمة دائمة يصعب تفكيكها لاحقًا.

ولا يشترط أن تمتلك الدولة تفوقًا عسكريًا كي تؤثر في الخصم، بل تحتاج إلى تحويل التفاوض إلى عملية هجومية عبر أدوات القانون الدولي والإعلام والمؤسسات الأممية. هذه الأدوات قادرة -متى أحسن استخدامها- على فرض كلفة أخلاقية وسياسية على الطرف المعتدي، وتوفير مساحة دفاع شرعي للطرف الضعيف. أما غياب ملف ضاغط فيحوّل طاولة التفاوض إلى ساحة تسجيل نقاط من طرف واحد.

لا يمكن لأي دولة أن تخوض مفاوضات فاعلة في ظل جبهة داخلية مفككة ورؤى متضاربة حول معنى الدولة والمصلحة والأمن. الوحدة هنا ليست انسجامًا أيديولوجيًا، بل حدّ أدنى من التماسك يمنع الخصوم من استثمار الشروخ الداخلية كورقة ضغط. في غياب هذا التماسك، يتحول التفاوض إلى امتداد لصراع داخلي، وتتحول أي تنازلات إلى اتهامات وطنية.

معركة الشرعية: البعد الأخطر

الحسم في المفاوضات لا يكون في النصوص بل في شرعنة المطالب. الاعتراف -ولو ضمنيًا- بشرعية مطالب الخصم يمنحه امتيازًا قانونيًا يسمح بإعادة إنتاج تلك المطالب مستقبلًا. الأخطر من ذلك هو الاعتراف بمنطق المطالب: أي القبول بأن للطرف الأقوى الحق في تعريف مصالح الطرف الأضعف. هنا تبدأ الهزيمة الرمزية التي تسبق الهزيمة الواقعية.

في الختام، صحيح أن خيارات لبنان ليست مثالية لكن الضرورة لا تُبرر التخلي عن شروط الصمود. يمكن للتفاوض أن يشكّل أداة لتثبيت قواعد الاشتباك، وحماية المدنيين، وتقليل احتمالات الحرب، والحفاظ على ما تبقى من السيادة، شرط أن يتحول من تكتيك لتأجيل الأزمة إلى إستراتيجية لإدارة الصراع.

فالمعضلة الحقيقية تكمن في الانهيار البطيء تحت شعارات "الواقعية" و"العقلانية". والتحدي ليس في إرضاء الطرف الأقوى، بل في منع تحويل القوّة إلى أداة لإعادة هندسة الدولة وفق مصالحه. وبين تفادي الضرر الآني والانهيار البنيوي، سيُقاس نجاح التفاوض بما يمنحه الغد من قدرة على البقاء، لا بما يؤمّنه اليوم من استراحة قصيرة.

الكلمات المفتاحية
مشاركة