مقالات
يقف لبنان في هذه الآونة في ميدان معقّد من الضغوط الخارجية، أعمدتها: سياسية ومالية وعسكري، أدواتها: التهويل والابتزاز والاعتداءات، وأهدافها: محاولة إضعاف نقاط قوته وإخضاعه لخطط أميركية "إسرائيلية" وفرض تنازلات سياسية وتفاوضية وأمنية.
ومنذ أشهر يكرّر المسؤولون أن لبنان قام بواجبه بما خص الاتفاق، لا سيما رئيس الجمهورية الذي أكد مجدّدًا مع مرور عام على اتفاق وقف إطلاق النار أن لبنان التزم كاملًا بمندرجات هذا الاتفاق، بينما لا تزال "إسرائيل" ترفض تنفيذه وتواصل احتلالها لأجزاء من المنطقة الحدودية وتستمر في اعتداءاتها، غير آبهة بالدعوات المتكرّرة من المجتمع الدولي لالتزام وقف النار والتقيد بقرار مجلس الأمن الرقم 1701. ورئيس الحكومة أكد مؤخرًا أن "الجيش اللبناني يقوم بواجبه في تطبيق قرار حصر السلاح بيد الدولة وتنفيذ قرارات الحكومة، إلا أن "إسرائيل" تستمر في خرق الاتفاق من خلال الاعتداءات اليومية واحتلال عدد من النقاط في الجنوب.
ورأينا في الآونة الأخيرة تصعيد الضغوط على لبنان لتمرير مطالب في غير صالحه، وسط حملة تهويل كبيرة برزت لدى الساسة والإعلام الصهيوني بل تماهى معها بعض الإعلام في الداخل، وصولًا إلى موضوع التفاوض حيث يراد من الضغوط إخضاع لبنان لمسار من المفاوضات يحتاج الحرص لعدم فرض شروط أمنية وسياسية على لبنان.
نرى هنا أن الفريق الذي يسمي نفسه سياديًا، بدل التركيز على أولوية وقف الاعتداءات وانسحاب الاحتلال، ومواجهة الضغوط، يركز على موضوع السلاح. هنا ينقلب المنطق وتتكرّر التوجّهات التي تبدت في منعطفات ماضية ولكن بصورة أجلى، ومع اقتراب الانتخابات يصبح الأمر لديهم تسابقًا على التحدّي وإثبات الوجود وشد العصب لجمهورهم بغضّ النظر عما إذا كانوا يخدمون مصلحة بلدهم في ذلك أم مصالح أخرى.
ورغم أن فريق السياديين يحاول دائمًا إبراز لبنان في خانة المقصر في بنود الاتفاق ويحاول تفسيره فإنه لا يلتفت إلى أن ذلك لا يصب بمصلحة لبنان بل في السردية الصهيونية التي تبرر استمرار الاعتداء. وإذا كان لبنان تعرض لعدوان وخسائر فإن العدوّ تعرض أيضًا لضربات وخسائر بل فشلت حربه وخططه وأطماعه، والخسائر التي تعرض لها لبنان لا تبرر التخلي عن نقاط قوته بحيث يُفتح الباب مشرعًا أمام العدوّ ليستبيح لبنان بالكامل في ظل عدم التزامه بالقوانين الدولية، واستمرار الاحتلال لعدة نقاط والاعتداءات والتصعيد، فيما يتولى الموفدون الأميركيون الضغط السياسي بالتوازي بينما يسعى بعض الموفدين العرب لترجمة حرصهم على لبنان وأمنه عبر حراك دبلوماسي كما قامت مصر عبر زيارة وزير خارجيتها وتقديم أفكار إلى لبنان بدافع حسن النية.
وهنا التساؤل عن دور لجنة الميكانيزم. بل إن دورها يطرح الإشكالية الكبرى حول الضمانات ودور الدبلوماسية والمجتمع الدولي في حماية لبنان كما يزعم فريق لبناني فيما الوقائع الماثلة أمام الأنظار تؤكد أن اللجنة غير فاعلة في ما خص وقف الاعتداءات. كذلك فإنه في ظل الفيتو الأميركي على تقوية الجيش يطرح السؤال الدائم حول قدرة الجيش بوجه أي اعتداء صهيوني بغضّ النظر عن عقيدة وإرادة الجيش الوطنية السليمة بوجه العدو، ورغم كلّ المحاولات الخارجية لحرف عقيدته نحو منحى آخر أو تزايد الضغوط عليه في هذه المرحلة فقد أثبتت التجارب أن لدى الجيش وقياداته المتعاقبة التصرف الوطني العقلاني.
إذًا كلّ الضغوط تنصب على جانب واحد وهو لبنان والحجة هي سلاح المقاومة رغم التزام لبنان ببنود وقف إطلاق النار، بينما الطرف المطلوب منه أن يلتزم هو العدو. ومن هذه الضغوط الشأن المالي الاقتصادي. ففي بلد منهك اقتصاديًا بسبب السياسات المالية والاقتصادية التي تعاقبت عليه في الحكومات وصولًا إلى الأزمة المالية الكبرى عام 2019، وما خلفته الاعتداءات الصهيونية، يقع اليوم حصار غربي وعربي (من بعض العرب) نتيجة تسييس العلاقات الاقتصادية والتجارية والاستثمارية بحجة وجود شروط على لبنان الخضوع لها ليفتح باب الأموال والاستثمارات بل وحتّى التبادل التجاري..
الحصار ليس بجديد ولكنه تعمق في الآونة الأخيرة بعد الحرب. وتُعرف العقوبات أنها في العقدين الأخيرين باتت سلاحًا للغرب ضدّ كلّ من يناوئ سياساته. منذ عام 2012 صدرت تشريعات في الكونغرس تستهدف حزب الله وكلّ من يزعمون أن له صلة به ماليًا، وتوالت الضغوط والإجراءات مؤخرًا والتي انصاع لها جزء من السلطة في اتّخاذ قرارات سياسية ومالية رغم أن هذه القرارات الخارجية تؤثر على الشعب اللبناني ككل.
الباحث السياسي د. زكريا حمودان رئيس المؤسسة الوطنية للدراسات يشير في هذا الإطار في حديث لموقع العهد إلى أن "الكثير من الوعود التي تتعلق بإعادة الاعمار والتعاطي مع المقاومة في لبنان ذهبت هباء منثورًا انطلاقًا من فكرة تفسير الأمور بحسب ما تراه الجهة التي تتماهى مع الضغوطات الخارجية".
ويلفت إلى أن هناك "عدة جوانب تحصل بموضوع الضغوطات الخارجية، منها ما يصوب على الجانب المتعلّق بطلب سحب سلاح المقاومة، وهنا يكمن التغاضي عن فكرة الإستراتيجية الدفاعية والذهاب نحو تنفيذ ما يطلبه الأميركي و"الإسرائيلي"، ولا بد أن نذكر مؤخرًا أن الخطابات كانت تشيد بتعاون حزب الله ولكنها محدودة بحكم الضغوطات".
ويشير حمودان إلى أنه "في الجانب المالي من الواضح أن هناك مشروعًا ضدّ المقاومة بهذا الشأن وهنا تصدر الكثير من القرارات التي تتعلق بالضغوط على المقاومة إضافة إلى الضغط على الإمكانيات المالية التي تتوفر لدى المقاومة ومسألة القرض الحسن".
يؤكد الدكتور حمودان أن "من يعرف الساحة اللبنانية يعرف أن هذه الضغوط لن تؤدي إلى أي نتيجة بحسب تقديري وهذا تنفيذ للمشروع الأميركي و"الإسرائيلي" لأنه بنهاية المطاف فالمقاومة التي دافعت عن نفسها وشعبها بالسلاح تستطيع أن تجد الحلول المناسبة، وهذا المسار لن يطول في لبنان وله نهاية مرتبطة بالداخل والخارج ومدى قدرة الخارج على الاستمرار بالتماهي مع بعض الداخل وعدم قدرة الداخل على تنفيذ ما يطلبه منه الخارج، وبنهاية المطاف سنصل إلى نتائج وحلول تتناسب مع أصحاب الحق وكسر حاجز الضغوط على المقاومة وبيئتها"..
وهنا يبرز السؤال، لماذا لم يتباك السياديون على الضغوط على لبنان التي تعمق من أزماته وعلى تجميد الأنشطة التجارية والاستثمارية من بعض العرب وهو أحوج ما يكون إلى وقوف أشقائه إلى جانبه في وضعه المالي ليس بالهدايا والهبات بل على الأقل بفتح مجال الاستثمارات من جديد والتواصل التجاري، بل على العكس نلحظ في هذه الفترة أن بعض الأبواق الإعلامية المعروفة التوجّهات تلجأ في موضوع الحصار المالي الاقتصادي على لبنان إلى ما يلي:
- ركوب موجة "شيطنة الحزب" لتبرير حصار يطال شريحة واسعة بل كلّ لبنان وإطلاق مزاعم لزيادة الضغط على شركات ومؤسسات لتبرير عدم التعاطي معها وأي إجراء ظالم بحقها.
إطلاق مزاعم تتحدث عن أن حزب الله يلجأ إلى أساليب متنوعة لفك هذا الحصار مثل شركات التحويل أو مؤسسات خاصة أو عبر المسافرين وهذا يعني تحريضًا مباشرًا على المسافرين والمصالح التجارية لبيئة المقاومة
مزاعم قديمة جديدة تخلط بين مكافحة الإرهاب والتهريب والمخدرات وبين أموال تصل إلى حزب الله.
الزعم أن حصرية أو تسليم السلاح هي سبب الأزمات المختلفة في البلد وعدم قدوم الأموال إليه رغم أن الأزمات لها أسباب مختلفة، ووقف التعاون الاقتصادي من بعض الدول هو سابق على موضوع حصر السلاح بسنوات.
هذا الحصار يطال كلّ لبنان وكلّ شرائح الوطن لأنه سياسة عامة للتعاطي مع الدولة والمؤسسات الرسمية والشركات والأفراد فتطال سلبياته كلّ الوطن. إزاء ذلك لم يخرج الفريق السيادي بأي كلمة دفاعًا عن سيادة لبنان المالية والاقتصادية في وقت رأيناه في فترة ما سمي الثورة يركب موجتها للتباكي على الشعب واقتصاده وأموال المودعين رغم أنه كان حاضرًا في كثير من مفاصل السياسات المالية والاقتصادية السابقة. كما أن الخضوع للتوجيهات الأميركية في سياسات وقرارات مالية معينة، يلحق ضررًا بسيادة البلد وبفئة شعبية واسعة ومؤسسات بذاتها حتّى لو كانت مؤسسات يستفيد منها الفقير وذوو الدخل المحدود.
بالخلاصة فإن السلطة والحكومة تقع تحت ضغوط كبيرة ليست سهلة، ويتطلب ذلك من الجميع الوقوف في موقف وطني موحد مع التمسك بمفاصل قوة البلد لدرء الضغوط والوقوف بوجهها وعدم الاستسلام لها.