نقاط على الحروف
في بلدٍ لا يزال يواجه اعتداءات مفتوحة من قبل العدوّ الصهيوني وضغوطًا دولية متصاعدة، خرج وزير الخارجية والمغتربين يوسف رجي بسلسلة تصريحات لم تكتفِ عند حد توصيف سلاح المقاومة، بل ذهب أبعد إلى تبنّي سرديات تلامس خطاب العدوّ وتنسجم مع ضغوط خارجية، في لحظة يُفترض فيها أن تنصرف الجهود إلى حماية لبنان من العدوان وانتزاع حقوقه.
وبين التشكيك بعناصر القوّة الوطنية، وتقديم تطمينات مجانية بلا مقابل، تبدو هذه التصريحات أقرب إلى دبلوماسية تبرير العدوان، ما يضع الدولة أمام اختبار خطير في فهمها لدورها وموقعها في معادلة الصراع المفتوح مع العدوّ الصهيوني.
وزير الخارجية اللبناني السابق عدنان منصور قدّم لموقع العهد الإخباري قراءة نقدية لتصريحات الوزير يوسف رجي، موضحًا أنّ ما صدر عنه لا يعبّر عن موقف الدولة اللبنانية بقدر ما يعكس توجهًا شخصيًا وسياسيًا يسيء إلى الدبلوماسية اللبنانية ويضعها في موقع الإرباك.
منصور استهلّ موقفه بالتعبير عن استغرابه الشديد من صدور تصريحات تتعلق بالعلاقة مع إيران وطبيعة التعاطي مع وزير خارجيتها، واصفًا هذا السلوك بأنه خروج عن الأصول والأعراف الدبلوماسية المتّبعة، ولا سيما أن إيران دولة إقليمية كبرى تربطها بلبنان علاقات رسمية قائمة وممتدة.
وشدد على أن أي تعامل شخصي أو انتقائي مع دولة تربطها بلبنان علاقات دبلوماسية كاملة، يُعد إساءة مباشرة للدبلوماسية اللبنانية التي لطالما التزمت اللياقة والاتزان في علاقاتها الخارجية.
وانتقد الوزير منصور فكرة الدعوة إلى اللقاء أو التشاور في دولة ثالثة، وقال "إن هذا الأسلوب يُستخدم عادة بين دولتين لا تربطهما علاقات أو بين خصمين، وليس بين بلدين تجمعهما علاقات طبيعية ومتجذرة".
ورأى في هذا الطرح سلوكًا غير مبرر دبلوماسيًا، خاصة أن الجانب الإيراني، بحسب منصور، أبدى استعدادًا لزيارة لبنان أو استقبال وفد لبناني في طهران، ما يجعل هذا الطرح إشارة سلبية تمسّ بصورة الدولة اللبنانية لا بشخص الوزير فقط.
وفي الشأن الداخلي، توقف منصور عند تصريحات رجي المتعلّقة بسلاح المقاومة، والتي تثير إشكاليات سياسية وسيادية خطيرة، وتسقط من حسابها واقع الاعتداءات "الإسرائيلية" المتواصلة على لبنان وارتقاء الشهداء وتدمير المنازل والبنى التحتية.
وشدد على أن دور وزير الخارجية هو الدفاع عن الموقف اللبناني في مواجهة العدو، وفضح الاعتداءات "الإسرائيلية" أمام الرأي العام الدولي، لا الدخول في متاهات داخلية تزيد الانقسام.
وأكد أن وزارة الخارجية يجب أن تعكس موقف الدولة اللبنانية ككل، وأي تصريح يخرج عن هذا الإطار يبقى موقفًا فرديًا. وأضاف أن صمت الحكومة أو عدم اتّخاذها موقفًا واضحًا إزاء هذه التصريحات، يُفهم منه إما القبول الضمني بها أو تجاهل خطورتها، وكلا الأمرين يشكّل إشكالية وطنية.
كذلك شدّد على ضرورة اعتماد سياسة خارجية إيجابية تجاه دول المنطقة، وعلى رأسها إيران التي وصفها بالدولة الصديقة التي وقفت إلى جانب لبنان على مدى سنوات طويلة، ودعمت قضاياه وشعبه ومقاومته.
ولفت إلى أن قطع الجسور أو التعامل السلبي مع دولة بهذه الخلفية لا يخدم لبنان ولا دبلوماسيته ولا مصلحته الوطنية العليا، بل يفتح الباب أمام مزيد من الانقسام الداخلي، في وقتٍ أحوج ما يكون فيه البلد إلى الوحدة في مواجهة عدو يهدّد الأرض والشعب والسيادة.
وفق منصور، فإنّ خطورة هذا الخطاب لا تكمن فقط في مضمونه السياسي، بل في كونه يصدر عن رأس الدبلوماسية اللبنانية في لحظة بالغة الدقة، ما يمنحه أبعادًا سياسية وقانونية تتجاوز السجال الداخلي.
وشدد منصور على أنّ توصيف سلاح المقاومة بأنه أثبت "عدم فعاليته" يشكّل إنكارًا فجًّا للوقائع التاريخية المثبتة، وفي طليعتها تحرير الجنوب عام 2000 وكسر معادلة التفوق "الإسرائيلي"، مؤكدًا أنّ هذه الوقائع ليست وجهة نظر سياسية بل حقائق موثّقة يعرفها المجتمع الدولي قبل اللبنانيين.
وأضاف أن الحديث عن أن السلاح لم يحمِ لبنان يختزل الصراع مع العدوّ بمعيار خطأ؛ لأن مواجهة الاحتلال لا تُقاس بوقف الاعتداءات كليًا، بل بقدرة الدولة وشعبها على ردع العدوّ ومنعه من تحقيق أهدافه، وهو ما تحقق فعليًا على مدى سنوات بفعل معادلة المقاومة.
وتوقف منصور عند تبني بعض الفرقاء الداخليين للسرديّة "الإسرائيلية"، محذّرًا من أن تحميل المقاومة مسؤولية الاحتلال أو العدوان يبرّئ العدوّ "الإسرائيلي" من أطماعه التاريخية في لبنان، ويمنحه غطاءً سياسيًا لمواصلة اعتداءاته.
ولفت إلى أن هذا النوع من الخطاب، حين يصدر عن وزير خارجية، لا يبقى في إطار الرأي الشخصي، بل يتحول إلى مادة تُستخدم ضدّ لبنان في المحافل الدولية لإضعاف موقفه القانوني والسيادي.
كذلك حذّر من أن تصريحات رجي تؤمّن عمليًا غطاءً دبلوماسيًا للاعتداءات "الإسرائيلية"، عبر الإيحاء بأن استمرار العدوان مبرَّر طالما أن سلاح المقاومة غير مجدٍ، وأن هذا المنطق يقلب الوظيفة الدبلوماسية رأسًا على عقب، من الدفاع عن البلد إلى تبرير استهدافه.
وفي ما يتصل بالتماهي مع الموقف الأميركي، استنكر منصور تكرار كلام السفير الأميركي حول عدم جدوى تعيين مدني في لجنة "الميكانيزم" ما يطرح علامات استفهام خطيرة حول استقلالية القرار اللبناني.
وسأل: "إذا كانت هذه الخطوة غير مجدية كما يعترف الوزير نفسه، فلماذا أقدمت الحكومة عليها؟" مرجحًا أن ذلك يعكس إما تخبطًا في القرار أو خضوعًا لضغوط خارجية مقابل وعود أمنية ثبت عدم صدقيتها.
وانتقد منصور بشدة انتقال وزير الخارجية من المطالبة بحقوق لبنان، كجدول زمني للانسحاب من النقاط المحتلة واستعادة الأسرى، إلى تقديم جداول زمنية لنزع سلاح المقاومة، إذ إن هذا السلوك وفق وزير الخارجية السابق يُفقد لبنان أوراق قوته التفاوضية مجانًا، ويقدّم تطمينات للعدو دون أي التزام مقابل بوقف العدوان أو تنفيذ القرار 1701.
كذلك أكد أن الانحياز الواضح إلى خطاب فئة سياسية داخلية، وتبنّي أجندتها حرفيًا في ما يتعلق بالقرار 1559 ووصف المقاومة بـ"الميليشيا"، يسقط عن وزير الخارجية صفته التمثيلية للدولة بكلّ مكوّناتها، ويحوّله إلى طرف في الانقسام الداخلي، في وقت يحتاج فيه لبنان إلى خطاب جامع لا إقصائي.
وختم منصور بالتأكيد أن ما يصدر عن الوزير رجي لا يندرج في إطار دبلوماسية حماية بل في سياق دبلوماسية تبرير؛ لأنها تتخلى عن عناصر القوّة الوطنية في لحظة تهديد وجودي، وتفتح الباب أمام العدوّ والضغوط الخارجية لفرض وقائع سياسية جديدة على حساب السيادة اللبنانية.
وأعاد منصور التشديد على أن صمت الدولة عن هذا المسار، إن استمر، سيُفهم على أنه موافقة ضمنية، وهو ما يشكّل خطرًا مضاعفًا على وحدة لبنان وموقعه في الصراع المفتوح مع العدوّ الصهيوني.