مقالات
أجلس في المقعد الخلفي للسيارة التي تقلني الى مطار النجف الدولي بطريق العودة إلى بيروت. بأسى أتأمل شوارع النجف. أتحسر على أهلها، وأقول في قلبي: لعنة الله على أمريكا. ألا يمكن لهذه الحاضرة العظيمة أن تكون أجمل؟ فالمطر على سخائه بالإحياء، يكشف عورات المدن.
وسط زحام الأفكار طالعتني صورته. يا الله. أيجب عليها دوماً أن تكون بهذا البهاء والنقاء؟ واحدة من أجمل الصور لسماحة سيد شهداء الأمة. صورة كبيرة تغطي واجهة أمامية لأحد المباني.
كالعادة ودون استئذان تهيأت الدمعة لفرض حضورها في محضر أكثر الغائبين حضوراً.
وأعترف بأن ما لفتني ليست الصورة، فوجودها يكاد يكون اعتيادياً أينما ذهبت في العراق الحبيب منذ شهادة سماحة السيد. لكن ما استوقفني حقيقة الجملة التي ذيّلت بها، ما قد تظنها للحظة جدارية في حارة حريك في الضاحية الجنوبية لبيروت. كتب المُحبُّ عليها "هوّن ما نزل بنا أنه بعين الله".
تنهّدت من عميق القلب. ما سرّك يا سيد القلوب؟ أتعلم أنك الهوية؟ نعم بك يعرفنا الناس. "أنتِ من بلد السيد حسن". ينسبوننا إليك، ويا له من شرف عظيم. بادرني المرافق بتعليق: "كيف الحال في لبنان"؟ أجبته: كحال العراق. كحالنا في ظلال أمريكا و"إسرائيل".
تنهّد وبدأ الحديث عن السيد. وسبق فيض كلامه بقسَم، لتثبيت ما هو ظاهر بالعبرة والصوت المتقطع: "بكيناه رجالاً ونساءً. صدقي. ثلاثة أيام بعد الخبر والحزن يلف العراق. صدقي. بكيناه ولا زلنا كما لم نبكِ أحداً من قبل. السيد لم يكن للبنان فقط. كنا نعتبره قائدًا وحامياً لنا جميعا". يسهب بالشرح: "صحيح عندنا قادة شهداء. حزنّا عليهم. بكينا أيضًا. لكن السيد غير. ثلمَ في القلب ثلمة".
لا أجتهد بل أنقل الكلام بحرفيته: "انظري الى سوريا. الى المنطقة. كان جبلاً يحمل أثقل الهموم عنا". تخنقه الدموع رغم صلابته، لكني أجيبه بالمُستطاع. أشرح وأبين وأطمئن. أستدل بالتاريخ والحاضر لاستشراف المستقبل مع عراقي أصيل يتحدث بمحبة لا توصف عن لبنان. "والله نحب لبنان وشعبه وأُصبنا بمصابهم بالحرب الأخيرة". أُطمئنه بثبات وقلبي يشتعل بمرارة الفراق، وحرقة الأسى على شهادة أعظم القادة وأنبلهم.
ما سرّك يا سيد؟ لم يكن الحال مختلفاً قبل ساعات منذ هذه الحادثة. في حضرة أحد الفاعلين في العتبة العلوية المقدسة، تسيّدتَ محور الحديث يا سيد.، وانهمر سيل الأسئلة عليّ بوصفي أُنسب الى علوّ مقامك. ليس سهلاً أن ترى الرجال تبكي. يرجع بالذاكرة الى ذاك اليوم الأليم، الى غروب الجمعة في السابع والعشرين من أيلول، جمعة الشهادة يا سيد. يروي حال القلق والسهر فجراً بحثاً عن خبر. كيف هاتف من يعرف في لبنان: "أخبروني عن السيد". "يعاجلني بالسؤال: "ماذا قالوا لك عن جسده الطاهر؟". ويبكي. " ثلاثة وثمانون طناً لاستهدافه! حسبنا الله ونعم الوكيل بمصابنا". كأن الخبر وليد اللحظة.كأنها الشهادة الآن الآن، وليس قبل عام وما يزيد على الشهرين بأيام.
هذه قصتي التي لم يتبدل حالها عما عايشته في زيارة الأربعين الماضية. كيفما اتجه البصر، في الشوارع والأزقة، في المحال الكبيرة والعربات البسيطة، ترى صور السيد. يسألونك عنه ويبكونه.
ننسب إليك. يعود الحديث الى أوله. من لبنان؟ من الضاحية؟ من الجنوب؟ من؟ ومن؟ من ديرة السيد حسن؟ أتمتم في قلبي: ما سرّك. ربما يكون في ما قاله عنك يوماً شريك الجهاد، من سبقك الى يقين الشهادة، من احترق قلبك حزناً عليه، الشهيد القائد الحاج قاسم سليماني: "السيد حسن قلبه كله إخلاص".
هذا بعض سرك يا سيد، الإخلاص حد الشهادة. الإخلاص في القيادة، وصدق محبتك للعراق والعراقيين. أنبت كل هذا الحب الكبير لك في قلوبهم. محبتك غير المشروطة لكل المظلومين في العالم. أفكّر قليلاً وأنا أراقب المارة من نافذة السيارة، وأواصل حديثي القلبيّ مع نفسي: "حسناً. إن كان للأنساب مقام ومقال، أقولها الآن وفي كل ساعة: نعم انسبونا أبداً ما حيينا للسيد حسن. انسبونا إليه، كما تنسبوننا لجده الحسين ولأمه الزهراء فاطمة عليهما السلام. انسبونا إليه، فبه نفخر.